9 اكتوبر 2022م
سد السلام وبحيرة النوبة
إن سد النهضة الإثيوبية السالف ذكره لا يخرج عن كونه توسيع وتعلية لبحيرة تانا وزيادة لمخزون المياه فيها وتهيئتة لاندفاع طاقة مائية كافية لتشغيل توربينات معيارية لتوليد طافة كهربائية دولية. كما أن محاربة مثل هذا السد لا يمكن أن تتم بهدمه، بل ببناء الرصيف القوى كسد احتياطي على مقربة منه لترويضه والاستفادة منه ودرء مخاطره عند الحاجة. ومثل هذا السد المقترح أسمِّيه أنا، كاتب هذا المقال البحثى، “سد السلام” وبحيرته تسمى “بحيرة النوبة” والتي ستقوم مقام “بحيرة تانا” من حيث الموقع لتمكنها من التحكم في تدفق وتوزيع كل مياه النيل الأزرق من داخل الأراضي السودانية. ونظرية محاربة “السد بالسد” تنشأ من وترد إلى إمكانية تخزين وتوزيع الطاقة الهيدروليكية في بمختلف صورها وأشكالها، وهذا المنحى في كل أطواره ينطبق تمام الانطباق على سد النهضة الإثيوبية، ومهما يكن السد من حيث الحجم والضخامة وسعة التخزين، فهو محدود التخزين والدفق المائي بالمقارنة للحاجة الفعلية لسهول وأودية السودان كدولة قابعة وسط القارة الإفريقية وتمتلك استراتيجية محكمة تمكنها من السيطرة والتحكم في كل ما يمكن نسبه إلى الاقتصاد الزراعي القاري.
والشئ المضحك حقاً يتمثل في امتلاك السودان لمساحات واسعة من الأراضي الزراعية الصالحة وكميات مهولة من الماء الصالح للشرب والري الزراعي، ورغم هذا كله أقحم اسم السودان في قائمة الدول الفقيرة والمتسوِّلة في عالم إنتاج القمح ومشتقاته.
وهنا أرى وجوبا تذكير الساسة والحكام في السودان تجنب الغفلة والحكم على إثيوبيا كدولة معادية بسبب بناء سدها المذكور، وأرى فيه أنا، كاتب هذا المقال البحثي، الخير وكل الخير حيث أنه أيقظ السودان إلى حقيقة ضرورة نقل بحيرة تانا من إثيوبيا وتخزينها داخل الأراضي السودانية ببناء سد قوي يستوعب كل الطاقة الهيدروليكية للبحيرة والتحكم فيها بسد يسمى “سد السلام” ويقرن ببحيرة تسمى “بحيرة النوبة” استرداداً لأراضيهم ودورهم التي أغرقت تحت ماء بحيرة ناصر. والرد هنا بالحجة الدامغة لقيام “سد السلام” يكمن في افتقار إثيوبيا لمساحات كافية من الأراضي ذات الكفاءة والسعة الإنتاجية الزراعية لاستيعاب كميات المخزون المائي. والمعلوم الآن أن فائض التخزين المائي يتجه إلى مصر ليجمع في “بحيرة ناصر” التي تسببت في غرق وطمس كل بلاد النوبة بالخصم على الأراضي السودانية. ومن ثم، يكمن حل كل مشاكل نهر النيل في بناء سد السلام وقيام بحيرة النوبة كمركز تحكم معياري في توزيع مياه النيل وتدفق الفائض في المصب.
السد العالي وبحيرة ناصر
لقد بدأ بناء سد أسوان المنخفض وتم في ما بين عامي 1898م و 1902م على يد الإنجليز درءاً لمخاطر فيضان نهر النيل ولتنظيم عمليات الري الزراعي بالتخزين لمواجهة سنين الجفاف، ورغم ذلك تمت تعليته في السنوات 1907، 1912، 1929 و 1933 على التوالي لتخزين المياه ومقاومة أخطار الفيضانات المتزايدة.
وفي عام 1953م، تولي الحكم في مصر نظاماً عسكرياً تمخض عنه أن تولى الرئاسة جمال عبد الناصر في عام 1956، ومن ذاك الحين بدأ التفكير الفعلي في مشروع سد أسوان العالي (السد العالي) في عام 1956م. وحينذاك انطلق عبد الناصر في مكوكيات دبلومسية للبحث عن ممول لمشروعه الضخم المرهون تنفيذه بتكلفة عالية لا طاقة للخزينة المصرية بها. وفي هذا القبيل عرضت بريطانيا وأمريكا تمويل المشروع بقرض مقابل أن يقوم عبد الناصر بدور قيادي لحل القضية الفلسطينية الإسرائيلية، ولكن الأمور بدأت واضحة أمام الدولتين وخرجتا بمنظور سالب وهو أن عبد الناصر لم يكن معوِّلاً على دعم قرضي من أي من الدولتين حيث أنه لاذ في هذا القبيل بتحركات استهدفت المعسكر الشيوعي وتوجها بشراء أسلحة من تشيكوسلوفاكيا والإدلاء باعتراف بحكومة الصين الشعبية الشيوعية. ولنضف إلى هذا أن بريطانيا لم تكن مؤيدة لبناء السد العالي لأسباب استراتيجية تتعلق بشؤون السودان كدولة بكر يمكن أن تلعب دوراً خطيراً في الاقتصاد الزراعي للقارة الإفريقية ومجموعة الكمونولث البريطاني. ولكن الكوادر التي تولت السلطة في السودان بعد الاستقلال عام 1956م، رفضت الانضمام لمجموعة الكمونويلث البريطاني، وكان الرفض للأسف كارثياً ألقى بالسودان في بحر من الفوضى الاقتصادية التي أخرجته من عالم الجنيه الاسترليني والقت به في خضم ومتاهة الجنيه السوداني الذي لم تعد له قيمة ولا ضمانة في عالم البنوك الدولية. والواقع العملي يقر ويقول إن بريطانيا أسست في السودان “مشروع الجزيرة” بوصفه أكبر مشروع زراعي في القارة الإفريقية والذي للأسف ذهب مع الريح بذهاب الإنجليز إلى بلادهم وكتب للاقتصاد السوداني دمار الغفلة والجهل القيادي لخلف ردئ غير جدير بمنصب الحكم لقيادة السودان.
إن بناء السد العالي قد قدَّم فوائد جمة لمصر تمثلت في حمايتها من مخاطر فيضان النيل، توفير أكثر من نصف الطاقة الكهربائية التي تحتاج إليها مصر، توفير مخزون مياه وافر يكفي للشرب والري الزراعي المنظم لعدة سنين، وقيام أكبر بحيرة صناعية أفادت تحسين الملاحة النيلية وزيادة كميات صيد الأسماك النيلية. وهذا بجانب فوئد أخرى تتعلق بالسياحة وركوب القوالب النيلية على البحيرة. وهذه هي الحجج التي تستند عليها مصر لإقامة سدها العملاق.
ومن موقع بناء هذا السد ولدت واحدة من أكبر البحيرات الصناعية التي صنعها الإنسان وسميت “بحيرة ناصر” تخليداً لذكرى الرئيس “جمال غبد الناصر” وأسقط عنها اسم “بحيرة النوبة” الذين ابتلع السد وبحيرته تراثهم وحضارتهم بسبب وجود حكام عسكر جهلاء في قيادة دفة الحكم في بلاد السودان. ورغم احتجاجات النوبة وأهل العلم والفضل في سائر بلاد السودان لم يمن الله عليهم لا بأذن صاغية ولا بعقل يرشدهم لضياع مصلحة البلاد بقيام سد وبحيرة بمثل هذه الضخامة. وهكذا وقعوا الموافقة وكأنهم في متعة ونشوة طرب في حفل عقد لهم تعظيماً لرتبهم العسكرية العليا التي حملت ألقاب البك والباشا التي جلبت لهم تولى سلطان الحكم في سودان التبعية والمخلفات الباشوية.
إن قياس أبعاد هذه البحيرة قد بلغ طولاً (500) كيلو متر، وعرضاً (16) كيلومتراً، وعمقاً (130) متراً، وتعمل بطاقة كلية بلغت (168) مليون متر، مكعب، من الماء ومخزون مياه قدره (100) كيلومتر مكعب. والناظر إلى جملة الخراب الذي أحدثته هذه البحيرة نجد أنه امتد إلى تدمير معظم مدن وقرى وجزر النيل في شمال السودان، مما أدى إلى خروج سكان الجزر من مساكنهم ولجوئهم إلى أقصى ضفاف النيل شرقاً وغرباً تجنباً لضراوة الفيضان السنوي المعاق الانسياب والتصريف بسبب سد ناصر الذي يمتد جنوباً في شكل بحيرة زاحفة.
واليوم نجد أن معظم سكان شمال السودان، وهم أكثرمن غيرهم ارتباطاً بجزر النيل وضفافه وكل زراعتهم وأشجار فاكهتهم بكل أنواعها لا مكان لها غير مجاورة النيل، يعانون من وباء وشر مستطير سمي بـ”الهدام”، ولم يستطع أحد التغلب عليه بحكم أن مياه الفيضان تحوَّلت لوجود مستمر في مجرى النيل وتآكل من حوافه بالنحات والتعرية، مما يؤدي إلى سقوط أشجار النخيل والفواكه في ماء النيل. وهنا أشير إلى أن محصول البلح يعتبر من أهم محاصيل مزارع الشمال ويعتمد عليه في الغذاء والدخل النقدي المعيشي من البيع، ولكن بسبب “الهدام” تناقص هذا المورد متجهاً نحو العدم بمرور الأيام.
ولا شك في أن مثل هذا التصوُّر كان غائباً على الإنجليز إبان حكمهم للسودان، وبالتالي كان تقديم وسحب قرضهم لتمويل السد العالي مجرَّد تكتيك دبلوماسي الهدف منه إغراء وإبعاد “عبد الناصر” من براثن الأخطبوط الشيوعي. وبالتالي ولى الإنجليز ظهرهم لهذا المشروع لعلمهم بأن هناك مشاكل كامنة فيه وأنهم سيرفضوا قيامه في الوقت المناسب بواسطة حكام السودان المستقل. وهذا الاتجاه يؤكده أن الإنجليز هم في الأصل من قام ببناء “سد أسوان المنخفض” في عام 1902م، تحت إشراف السير “ويليام ويلكوكس”. والحق يقال إن الإنجليز سعوا بكل جدية لضم السودان المستقل مع مجموعة دول الكمونولث البريطاني، ولكنهم فشلوا أمام تعنت العنتريات السياسية السودانية التي رفعت سيوف العشر (نبات هش وسام لا تأكله الأغنام) أمام مدافع الإمبراطورية البرطانية التي لا تغرب عنها الشمس. لقد رفض حكام السودان المستقل الانضمام لمجموعة الكمونولث البريطاني التي صار عدد أعضائها اليوم أكثر من (250) دولة. والحق يقال وكل الحق إن الإنجليز وضعوا الأمور في نصابها بواسطة قوانين محكمة لخدمة كل السودان ليلعب دوراً قيادياً في منتصف القارة الإفريقية، ولكن الساسة من أولاد البلد كانوا أرباب مرتعة جهل وأولياء وطنية جوفاء ديدنهم الحصول على السلطة ولا ترى أعينهم المثقوبة الأمور إلا من خلال ثقب ضيِّق ومظلم أعادهم القهقري لمعايشة ذكرى الكر والفر ومعايشة همجية القرون الوسطى، لم يكن بينهم قادة صفوة في عبقرية ودهاء “غاندي” الهند و”جناح” الباكستان.
وبدراسة محتويات هذا السرد الموجز يمكننا القول إن مشكلة حرب النيل صناعة شيوعية تمت بموجب تمويل وتصميم وخبرة روسية بنى على أساسها “سد أسوان العالي” وافتتح في عام 1971، وبتمام بناء هذا السد بدأ غزو وإغراق مساحات معتبرة من أراضي النيل الواقعة في شمال السودان. وبسببه تكوَّنت بحيرة مهولة تعتبر من أكبر البحيرات التي صنعها الإنسان بتخزين مائي متزايد امتد عبر السنين إلى يومنا هذا. وهكذا لم يعد نهر النيل يجري في مجراه الطبيعي الذي سلكه منذ آلاف السنين، كما أن إعادته لمجراه الطبيعي يعد أمراً في حكم المستحيل، بحكم أن مصر سترفض وتمنع هذا الاتجاه بكل الىسبل والوسائل. كما أن قبول روسيا لتمويل وبناء السد العالي كان الهدف منه ضم مصر تحت الجناح الشيوعي وإبعاد الإنجليز من السيطرة الاقتصادية وسط القارة الأفريقية والتي تمثلت في “مشروع الجزيرة” الذي يعتبر بلا منازع أكبر مشروع زراعي عرفته القارة الإفريقية. ولولا تحطم هذا المشروع بسبب سيطرة الكوادر الشيوعية على السلطة وتأميم كل المصارف والشركات الإنجليزية لما آل اقتصاد السودان لهذا الدرك المنحط في صورته المخجلة. وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سيقوم السد العالي وبحيرته الصناعية بعرقلة وإضطراب نظام الري الزراعي على امتداد نهر النيل جنوباً وهذا بدون شك مع عدم إسقاط الآثار الضارة الملازمة للفيضانات والسيول التي تضرب معظم قرى ومدن السودان سنوياً.
إن رفض بريطانيا لدعم وتمويل بناء السد العالي مرجعه علمها التام بطبيعة وتنوع التكوين الجغرافي والجيولوجي للأراضي السودانية و الإثيوبية واليوغندية واتصالها المباشر بمنابع النيل في بحيرات تانا وفكتوريا، فمن حيث الانحدار الطبيعي للقارة وميله نحو الشمال ممثلاً في مرتفعات الهضبة الإثيوبية والكنغو وزامبيا نجد أن أي إعاقة صناعية لمجرى النيل لابد أن تخضع لحساب دقيق ومدروس وفق متطلبات هندسة السدود والطبيعة الجيولوجية والجغرافية للمناطق المجاورة للمجرى ودرجة احتياجاتها للماء. ومن هذا المنطق البيِّن تكوَّن مشروع الرفض البريطاني لما سمى بمشروع “السد العالي” وبحيرته الصناعية العظمى.