8 أكتوبر 2022م
خلصنا في الجزء الفائت من هذا المقال الى نتيجة، بانه ليس مستبعدا أن يكون قد تم تزاوج بين الفور والبرنو والشلك من جهة والشلك والفونج من جهة أخرى بنفس القدر الذى حدث به تزاوج العرب القادمين من مصر مع النوبة فى الشمال أو الهدندوة فى الشرق وأدى الى سيطرة العرب السياسية والاقتصادية بسبب نظام الارث من ناحية الأم.
حتى تنجح وتستقر مملكة سنار كان لابد لقيادة هذه المملكة أولا من السيطرة على طرق التجارة التى تتنافس عليها الامبراطورية العثمانية وامبراطورية الحبشة وأوربا حيث فى هذه الفترة بدأت الحملات الاستعمارية للسيطرة على طرق التجارة والتى كان البحر الأحمر من أهم طرقها. وثانيا أن تكون لها القوة العسكرية المنظمة والضاربة. وثالثا أن تكون لها العقلية الاستراتيجية التى توضح لها مسار تحركاتها وفوق ذلك ولها توجه قومى أقنعت به حكام المشيخات المختلفة بضرورة التوحد فى حلف واحد لمواجهة القوى الخارجية المتنافسة على حدودها. ان تكوين وقيام دولة ما أو تحول مملكة ما الى دولة فى رأى بعض المفكرين تتسارع وتيرته فى حالة الزيادة السكانية بالمقارنة مع حجم الأرض التى يقطنونها مع وجود ضغوط خارجية ممثلة فى هجرات خارجية أو غزو خارجى يهدد مصالحها ومصالح سكانها. وأن المركزية السياسية تبدأ فى الظهور عندما يقدم أحد الحكام الحماية ضد أى هجمات خارجية. هذا بالفعل الذى حدث فى حالة مملكة الفونج. فمملكة الفونج تقع فى منطقة جغرافية استراتيجية بالنسبة للتجارة الدولية فى القرن الخامس والسادس عشر فهى تقع بين الحبشة ومصر وتطل حدودها الشرقية على معظم البحر الأحمر الممر الرئيسى التجارى والأقصر بين الشرق وأوربا والذى ما زال يمثل هذا البعد الاستراتيجى. ظهور صراع دولى للسيطرة على التجارة وممراتها الدولية ممثلا فى الامبراطورية العثمانية والحبشة ومصر وفرنسا والبرتقال واسبانيا كان واحدا من الأسباب الخارجية التى جعلت سلطان مملكة الفونج يسعى الى توحيد المشايخ حوله من أجل الدفاع أولا عن أرضهم وثانيا تأمين التجارة الدولية التى تعبر أراضيهم. مثل هذا التفسير لنشأة مملكة الفونج يبعد شبح الوقوع فى التخمينات غير العقلانية المصاحبة للتصور بأنها نشأت فجأة وثانيا يوقف هذا السيل من التفكير العنصرى الذى يعزو قيامها الى وجود العرق العربى خاصة بنى أمية والذى فى النهاية ينهى أى دور للعنصر غير العربى كما يستبعد أى عوامل اقتصادية واجتماعية ساهمت فيها مما يعتبر تفسيرا خاطئا للتاريخ وغير علمى. لقد كانت هناك هجرات عربية نحو السودان من الاتجاه الشمالى وهناك هجرات عربية/أفريقية/اسلامية قادمة من الحبشة مما يعنى زيادة سكانية تقلق أصحاب البلاد بجانب التهديد الخارجى من الامبراطورية العثمانية ممثلة فى مندوبتها الحكومة المصرية على البحر الأحمر ومن فرنسا واسبانيا والبرتقال فى الجنوب الغربى. فى وضع كهذا كان لا بد من عمل شئ يقوم به الحاكمون وقتئذ يبعد ذلك الخطر الخارجى. هذا العمل كان التمركز نحو الذات والعمل على تكوين جبهة داخلية قوية ضد الوجود الخارجى والتهديد المتواصل لمحو الذاتية والهوية. هذا التوجه نحو الذات هو الذى خلق نفس التوجه فى العقد الثامن من القرن التاسع عشر ليعيد التاريخ نفسه ويمكن القيادات الوطنية السودانية من اشعال ثورة شعبية أدت فى النهاية الى اخراج المستعمر من السودان والى قيام الدولة المهدية كما سنبين بعد قليل.
نظام الحكم لمملكة الفونج يعتبر بالمفهوم المعاصر حكما لا مركزيا. فقد كان زعيم المشيخة له مطلق التصرف فى موارد مشيخته الاقتصادية. توضح مراسم تعيين الحكام من السلطان حتى شيخ القرية صورة هذ الحكم اللامركزى كما جرت على لسان الكثير من الرحالة. ففى كل قرية يوجد حاكم يعرف بالشيخ يعاونه أكابر القوم فى القرية بجانب قاضى أو فقيه يتولى أمر التعليم وبعض الاداريين يقومون بتدوين الضرائب والزكاة كما يقومون بحفظ الأمن. وظائف شيخ القرية تنحصر فى تنظيم الرعى والزراعة وتوزيع الأراضى على الأفراد التابعين له حسب مقدرة كل منهم على العمل فى الزراعة. أما فى المدينة الصغيرة فهناك المك يعاونه شيوخ القرى وبعض الادرايين وفى المدينة الكبيرة ذات المركز التجارى فيحكمها المانجلك تحت الاشراف المباشر لحاكم المشيخة. أما حاكم المشيخة فيتم اختياره من قبل أهل المشيخة على أن يكون من نفس أسرة الحكم السابق وبمباركة السلطان فى سنار وموافقة شيوخ المشيخة. فى قمة هرم السلطة يأتى السلطان فى سنار ويتم اختياره على ثلاثة مراحل: أولا يتم اختياره من مجموعة من المرشحين من أقرباء السلطان السابق. يقوم بعملية الاختيار مجلس من أكابر القوم فى السلطنة الذى يجتمع مباشرة بعد وفاة السلطان السابق أو عزله. المرحلة الثانية يتم حبس السلطان مع عذراء لمدة سبعة أيام وبعدها يأتى لساحة التتويج حيث يبايعه أكابر القوم وزعماء المشايخ والأهالى. فى المرحلة الأخيرة يتم فيها حلق رأسه ويلبس فيها قفطان وعباءة جديدة بجانب الطاقية أم قرين(طاقية الملك) ويسلم سيفا ويجلس على الككر (كرسى الحكم) وبعدها مباشرة يأتى كبار القوم لمبايعته عن قرب. بعد انتهاء البيعة يذهب السلطان ورجال حاشيته الى النيل حيث ينزل فى الماء حتى تغطى رأسه وبذلك يكون قد تسلم الحكم فعليا.
بجانب هذا التنظيم السياسى الذى يعكس لنا صورة الحكم واختيار الحاكممن القرية وحتى رأس الدولة وهو السلطان، يوجد بجانبه تنظيم آخر غير رسمى ولكنه ذو تأثير كبير على الأفراد والجماعات داخل المجتمع وهو التنظيم الذى يربط الشيخ بمريديه ودرجة قوة هذه العلاقة تعتمد على سمعة الشيخ وقدرته على حل المشاكل التى تواجه المواطن خاصة تلك المشاكل المتعلقة بالروح. فكلما كان الشيخ قادرا على تخفيف مشاكل المواطن كلما زادت مكانته بين المواطنين وارتفعت سمعته لتصل الى السلطان فيزداد قدره وترتفع مكانته من بيئته المحلية لتعم السلطنة بكاملها. بمعنى آخر أن هذا التنظيم غير الرسمى لا يعرف الحدود بين المشيخات ولكنه يقوم على شهرة الشيخ وسمعته المتعلقة بالكشف عن الغيبيات والاتيان بالمعجزات والخوارق. هذه المعجزات والخوارق لم تكن وليدة لحكم المشيخات وسلطنة الفونج ولكنها تقاليد توارثها الناس من أقدم العصور وتطورت تحت تأثير التغيرات المتعاقبة كان من أهمها التغيرات المصاحبة للديانة المسيحية ثم الدين الاسلامى. فقد استمرت العادات الوثنية فى الفترة المسيحية واستمرت العادات والتقاليد المسيحية بجانب العادات الوثنية بعد دخول الاسلام رغم وجود مبشرين مسيحيين بعث بهم جوستنيان امبراطور روما وعلماء دين مسلمين بعثت بهم بغداد. لم يستطع هؤلاء العلماء تغيير تلك العادات لأنها من جانب تمثل روح هوية السكان ومن جانب آخر لم يكن العلماء اذا صحت التسمية على قدر من العلم يمكنهم من ترسيخ القيم الدينية المثالية كانت فى الدين المسيحى أو الاسلامى. لكن الأثر الذى تركته العلاقة بين المواطن والشيخ أى التنظيم غير الرسمى فى انتشار الاسلام واللغة العربية كان كبيرا. فالحواريون (الطلاب) الذين يقصدون العلم وقرآة القرآن والسكان العاديون الذين تجذبهم حلقات الذكر بما فيها من ترنيمات عقائدية وايقاعات موسيقية، كانوا يتقاطرون من كل مناطق المملكة لا تفصلهم حدود المشيخات أو يقف فى طريقهم الحكام. فشعائر الذكر بايقاعاتها الصاخبة وحركاتها الراقصة كانت أكثر قربا للثقافة السائدة وبالتالى أكثر قربا لنفوس الناس. فى هذا الصدد يشير تيرمنقهام الى الدور الشعبى الكبير الذى لعبته الصوفية من خلال الذكر فى انتشار الاسلام والثقافة العربية فى غرب أفريقيا بفضل ما يلازمه من ايقاع صاخب يتخلخل فى نفوسهم ويستقر فيها معمقا للعقيدة الاسلامية من جهة وناشرا للثقافة الاسلامية العربية واللغة العربية من جهة أخرى.
لقد كان اسهام الطرق الصوفية فى التوجه القومى كبيرا وذلك من خلال نشر الثقافة العربية الاسلامية وتقف اللغة كعنصر فعال فى تنقل المريدين حتى وان لم يكونوا يتحدثونها كلغة أم وهى ظاهرة ما زالت تسود الكثير من المجتمعات السودانية حيث يحتفظون بلغتهم الأم بينما يتحدثون اللغة العربية كلغة تخاطب خارج المنزل. الاقبال على رجال الطرق الصوفية لم يكن تحده حدود سلطنة الفونج اذ شمل مملكة الفور ومملكة تقلى المجاورتين لها. قامت مملكة تقلى الى الغرب من مملكة سنار والى الغرب من مملكة تقلى قامت مملكة دارفور التى استمرت ثلاثة قرون وانتهت عام 1916. كانت مملكة الفور غنية جدا واهلها شعب يعرف القرآة والكتابة ويميلون الى معاشرة الغرباء ويقول جيمس بروس عنهم بأنهم يختلفون كثيرا عن الشعوب العربية ولكن رحالة آخر هو برون يصف سلاطين الفور بأنهم لا يسمحون للغرباء خاصة الأوربيين المسيحيين بدخول أراضيهم خوفا من الأمراض والتجسس. فاللون الأبيض فى نظرهم يعنى مرضا خبيثا يستوجب ابعاده عن أرضهم كما أنه يقول بأن أصلهم من ضفاف النيل والأقاليم الغربية من مملكتهم. سكان مملكة االفور متعصبون للاسلام ويسافرون كثيرا لأداء مناسك العمرة والحج رغم الصعوبات الشاقة التى يتعرضون لها والمدة الطويلة التى قد تصل الى سنوات يضطر فيها البعض خاصة الفقراء للاستقرار فى مملكة سنار للعمل قبل مواصلة الرحلة ذهابا او ايابا وبعض آخر يستقر كلية بالقرب من رجال الطرق الصوفية من أجل تعلم القرآن والعلوم الاسلامية.
أما مملكة تقلى غرب مملكة الفونج فسكانها يربون الماشية ولهم علاقات تجارية وطيدة مع مملكتى سنار والفور وهم جميعا مسلمن ومعظمهم لا يتحدث العربية. اشتهرت مملكة تقلى باستخراج الذهب من مرتفعات شيبون وأبو شقارة وبورام وتنجور وجبل طيرة وهذه المناطق كانت تجذب الكثير من المناطق الأخرى خاصة من مناطق الزنوج حيث يصفهم الرحالة بكلر مسكاو بأنهم كالنمل من كثرتهم وهذا عامل مهم فيما يتعلق بالتداخل الوثيق بين المجموعات السكانية القاطنة خاصة فى عدم وجود أى تعصب دينى كما يقول بكلر ” ان أى شخص أجنبى تبدو أغراضه واضحة مثل التاجر والعامل لا يجد صعوبة على الموافقة للدخول الى تقلى حيث لا يوجد تعصب دينى.” مما تقدم يمكننا رسم صورة لما هى الحال بين سكان الممالك الثلاثة فيما يتعلق بالثقافة العربية الاسلامية نتيجة لتداخلهم المستمر تجاريا وفى حركتهم المستمرة ذهابا وايابا لأداء منسك العمرة والحج. هذا لاينفى القول بعدم تمكن معظمهم من الحديث باللغة العربية فحتى يومنا هذا تختلف الصورة التى يتحدث بها الناس العربية فى تلك المناطق والتى تختلف عنها فى مناطق وسط وجنوب السودان. أما فيما يتعلق بالعلاقات بين سكان هذه الممالك وسكان المناطق الجنوبية لها من الزنوج فقد كان هو الآخر وطيدا كما هو واضح فى هجرات العمل فى مناطق الذهب والتجارة مع هذه الممالك كما حكى عنها الرحالة فرن والرحالة بوركهارد فى منطقة جبال النوبة مع سكان منطقة بحر الغزال.
ما نود الوصول اليه هو أن العرب تأثروا كثيرا بالثقافة المحلية حيث تحكى طقوس تقليد الملوك والمشايخ كيف أنهم تأقلموا فى بيئتهم الجديدة خاصة فيما يتعلق بأمور الحكم فى المدن فمثلا كان لزاما على الحاكم أن يقبل طقوس اعتلاء الحكم التى يمليها الفقيه الدينى وهى أمور تتعلق بالسحر والشعوذة ومنافية للدين الاسلامى وغير متعارف عليها فى بلاد العرب. واحدة من تلك الطقوس تتعلق بعزل السلطان فى منزل خاص ومعه عذراء لمدة سبعة أيام تحت حراسة مشددة ولا يدخل عليه الا امرأة عجوز لتقوم بتدليك العروسين أى عمل مساج لهما. أما فى مناطق الريف والبدو فقد فقد العرب الكثير من شخصيتهم الثقافية مما انعكس على سلوكهم الدينى حيث تأثرت المبادئ الاسلامية بالتقاليد والعادات المحلية الموروثة.