8 أكتوبر 2022م
بحيرة تانا وسد النهضة العظيم
ولدرء خطر التعاظم التعدادي وتكاثف السكان ووخزات الجوع القاتل المتكرِّرة اهتدت الحكومة الإثيوبية إلى إنشاء وبناء ما أسمته “سد النهضة الإثيوبية العظيم – The Ethiopian Grand (Renaissance Dam”. وكلمة (النهضة) العربية الواردة في صيغة ترجمة هذه التسمية تعجز عن تغطية المعنى الذي ترمي إليه كلمة “renaissance” الإنجليزية وتعني بالتخصيص الارتداد إلى المعالم والأصول الحضارية والثقافية لممالك وإمبراطوريات الإغريق والرومان واقتباس أمجادها الباهرة قهراً لأساطير التخلف والبربرية الهمجية التي سادت وسيطرت على معظم ربوع القرون الوسطى في أوربا.
وهنا يفاد من تسمية السد الواردة في الفقرة السالفة أن إثيوبيا ترغب في استرداد أمجاد الإمبراطورية الإثيوبية التي لم يعرف لها مثيل على امتداد القارة الإفريقية في كل الأزمنة الضاربة في القدم، إنها إمبراطورية “إكسيوم”. ولا عجب هنا إذا علمنا أن إثيوبيا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي لم تستعمر بواسطة دول الاستعمار الأوربية التقليدية التي غزت إفريقيا، ما عدا إيطاليا في عهد حكم ” بينيتو موسوليني” وبقيت في السواحل لمدة خمس سنوات، فقط، ما بين عامي 1935 و1940ولم تنج من شراسة كمائن جيوب المقاومة الجبلية إلى حين أن كتب لها الرحيل دون عودة مع عقابيل الهزيمة والفشل المخزي والهزيمة التي ضربت إيطاليا في الحرب العالمية الثانية أمام جيوش الحلفاء.
إن أهم ما يقوله الأحباش بسبب إقامة هذا السد من حجج أمر مسنود بمنطق فولاذي من الصعب اختراق متاريسه ودحضه وقذفه في كينونة العدم، كقولهم إن نهر النيل ينبع من بحيرة “تانا” المولودة في بطن الهضبة الإثيوبية وكل الزراعة المروية على امتداد النيل الأزرق تعتمد على هذه البحيرة، فكيف يستقيم أن يحرم من يملك الماء من الغذاء الذي تنتجه الأرض المرويه بمائه؟ والعجب هنا يثور في كل ما يثيره العجب حينما يطرد الساقي من الأرض التي فلحها ورواها وحصدها عبر السنين وتسقط عنه ملكيتها الصورية وحق الإقامة فيها بالرجوع إلى حدود صناعية مجردة من حق الجوار وإلفة القدم، والطارد هو مالك الأرض ويعلم أن الماء مصدره يكمن في أعالي جبال هضبة الساقي الإثيوبية الأصل والمنشأ. وهكذا ارتد الأحباش القهقري وصعدوا فوق قمم الجبال لمعايشة المجاعات والضنك المعيشي وممارسة كل الحيل والأسباب المؤدية لبقاء الإنسان.
وللرد المانع الجامع قام الأحباش بالفعل ببناء السد المزعوم للتمكن من توليد طاقة كهربائية تكفي إثيوبيا للأغراض الصناعية والزراعية والمنزلية وتفيض للتصدير لتفي بحاجة كل الدول الإفريقية المجاورة لها، واليوم كمصدر حيوي لإنتاج الطاقة الكهربائية بدأت إثيوبيا بتشغيل توربين ابتدائي وتمكَّنت من إنتاج (375) ميقاوات، يومياً، ومخطط لها أن تنتج (5.15) جيقاوات، يومياً، بطاقة توليد صادرة من أكثر من (13) توربين مائي، ومن هذا المنطلق ستكون إثيوبيا أكبر منتج للطاقة الكهربائية في إفريقيا. ومن هذا المورد ستقوم إثيوبيا باستخدام دخل التصدير الكهربائي في شراء الغذاء الضروري لاستهلاك الإنسان الإثيوبي الذي يمتلك منبع الماء (البئر) وهو محروم من الأرض التي يرويها لزراعة محاصيل الطعام وغيره. وهذا هو الواقع الذي لا مخرج منه إلا بالانصياع له من قبل حكام إثيوبيا، ويعني بالضرورة استحدام الماء كمصدر طاقة كهربائية عظمى أو سلاح مدمر لمواجهة أضخم وأعتى قوة عسكرية موجودة على امتداد نهر النيل. لقد تم بناء السد والتشغيل دون الحصول على موافقة السودان ومصر على التوالي، وليكن ما يكون طالما تحوَّلت المسألة لصراع من أجل البقاء.
بحيرة تانا روح وادي النيل
إن بحيرة تانا تعتبر أكبر بحيرة في إثيوبيا وينبع منها النيل الأزرق وتليها من حيث الحجم والمساحة بحيرة فكتوريا الموجودة بالتجاور في يوغندا وتنزانيا وهي المنبع الأساسي للنيل الأبيض. وقد يتساءل الكثيرون لماذا سمي نهر النيل باسمين إحداهما أزرق والثاني أبيض وتسقط التسميتان في ملتقى النيلين الذي سمي بـ”المقرن” وسميت عليه مدينة الخرطوم، لأنه يشبه خرطوم الفيل في اقترانه متحداً ومتجهاً نحو الشمال القاري. ومن الخرطوم ينطلق نهر النيل الموحَّد شمالاً نحو مصر لينتهي في مصبه في حوض البحر الأبيض المتوسط. كما أن وصف النيل الأزرق بالأزرق يرجع إلى أنه ينبع من بحيرة تانا الصافية والنابعة من وسط الجبال في أعالى الهضبة. ومن ثم، يرجع الإزرقاق الذي نراه على سطح النيل إلى لون السماء المنعكس منه.
إن بحيرة “تانا” تعتبر أكبر بحيرة في إثيوبيا وتنبع وتجري عبر مجرى النيل في انحداره العنيف حاملاً مياه صافية تنعكس فيها زرقة السماء، بينما ينحدر النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا نحو الخرطوم حاملاً معه أطناناً مهولة من طين الغابات وسهول السافانا المعكر اللون بالطين الأبيض المفتقر للصفاء الذي يعكس زرقة السماء. وبحيرة “تانا” تنبع وتجري جرياً حسيساً في انحدار هضبي شمالي غربي وعلى ارتفاع يفوق الـ(6,000) قدم فوق مستوى سطح البحر، وتبلغ مساحتها (6,673) كيلومتراً مربعاً، وعمقها (14) متراً، ويبلغ مخزون المياه فيها (5) بلايين متراً مكعباً، وهذه البحيرة تقع في إقليم قبيلة الأمهرة فوق المرتفعات الشمالية الغربية للهضبة الإثيوبية المتجهة في انحدارها نحو السودان، وهو انحدار يحمل في مواعينه (90%) من محتويات مياه نهر النيل لتعبر السودان وتنصب في بحيرة ناصر الصناعية وليدة السد العالي في مصر.
وهنا في موقع انحدار مكوِّنات هذه البحيرة تم بناء سد النهضة الإثيوبية العظيم وعاصمته تسمى “بحر دار” وتقع في ولاية إقليم الأمهرة. وبناءً على المعطيات التي وردت مسبقاً يعتبر هذا السد مصدر كسب جم لإثيوبيا ومصدر شر مستطير للسودان، وإلا فماذا سيكون إذا ما تهتكت أو فتحت بفعل فاعل أبواب حجز المياه على مصراعيها وانبرت المياه بفعل فاعل منحدرة في أمواج جبلية لتغرق وتطمس معالم كل القرى والمدن الواقعة على ضفاف النيل. لا شك أن هذا السد يمكن أن يكون مصدر خراب عظيم لا يمكن أن تحدثه أعتى الجيوش تأهيلاً واستعداداً. والواقع يقول إنه الآن سلاح جاهز بالفعل للاستخدام في أي لحظة بعد الملئ التام، ويمكنه إحداث معدَّل دفق انحداري قوي قدره (19,370) متراً مكعباً، في الثانية، موجهاً نحو كل المدن والقرى السودانية على امتداد نهر النيل ليصطدم بالسد العالي جنوب خزان أسوان في مصر . لقد بُني هذا السد دون موافقة السودان ومصر وفي جو من السلام المغلف، ومن الواضح أن إثيوبيا اتخذت قرارها سلفاً على انفراد ولا حاجة لها للرجوع إلى أي دولة من دول حوض النيل، واعتبرت أن مشروع السد اقتصادي وعسكري في آن واحد وقادر على حماية نفسه ضد أي دولة مجاورة تمانع في بنائه أو تحاول هدمه، فالبناء والملء قد تم وأي هدم فيه يقع في حكم المستحيل، وهذا إذا ما راعينا أن الملء يتم عبر سنوات والتفريغ يتم في وقت وجيز وفق المعدَّل المذكور مسبقاً. ولا شك في أن التفريغ التام يمكن أن يحدث في وقت قصير وفي شكل فيضاني مدمِّر أشبه بفيضان نوح.