د. عبد الله محمد قسم يكتب: الوطنية والهوية السودانية (1-3)
المتخيل المعلن والمسكوت عنه فى المجتمع السودانى
مجتمع الفونج
للتعرف على العوامل التى أدت الى قيام مملكة الفونج والتى امتدت شمالا حتى مملكة المقرة المسيحية وجنوبا حتى فازوغلى وكنجارا، لابد لنا من الاشارة الى الحروب التى حدثت فى تلك الفترة بين المسلمين والقبائل المسيحية فى اثيوبيا والتدخل من قبل السلطان العثمانى لتأمين التجارة على البحر الأحمر. ففى الوقت الذى كانت فيه هجرة بعض العرب والمسلمين تتدفق نحو أواسط السودان نتيجة الحرب فى الحبشة كانت أرض النوبة فى الشمال تشهد نزوح بعض القبائل العربية من مصر. لهذا كان من بين المهاجرين من ينتمى الى الطبقة الحاكمة فى مصر مما مكنهم من التقرب من الأسر الحاكمة فى السودان ثم الانخراط فى العمل السياسى والتزاوج من أسر القيادات السياسية. مصاهرة الأسر الحاكمة مكن العرب تدريجيا من الاستيلاء على الحكم حيث توارثوه بحق ورثة أبناء الأخت المتبع وسط النوبة فى ذلك الوقت. نفس هذا السناريو تم بالنسبة للمهاجرين المسلمين من الحبشة ابان حروبهم مع ملك الحبشة ومع المسلمين من مملكة كيرى الذين سكنوا مناطق بحر الغزال مجاورين للقبائل النيلية خاصة الشلك جنوبا وقبائل العنج فى أواسط السودان.
أهم المصادر التاريخية لمجتمع مملكة الفونج هى كتابات الرحالة الأجانب اذا استثنينا طبقات ود ضيف الله، والتى تعتبر كتابات وصفية أكثر منها تحليلية وكانت معظمها خلال الفترة الأخيرة من عمر مملكة الفونج. لهذا كانت معظم الكتابات السودانية الحديثة والمتمركزة أصلا فى الاقتصاد السياسى لهذه الفترة، معتمدة على تلك الكتابات وتم تسخيرها لخدمة آيديولوجية وسياسية. لنوضح كيفية استغلال تاريخ شعب كامل لهدف آيديولوجى سياسى ويسقط التاريخ فيه لخدمة آنية نأخذ المثال التالى. فى محاولاتها لدراسة المرأة وكيفية استغلالها فى مجتمع دولة الفونج جاءت كتابات فاطمة بابكر تحمل الكثير من التناقضات والتحامل على حكام تلك الفترة وعزت كل جبروتهم وقوتهم فى ارساء دعائم دولتهم على جيوش شوكة رمحهم من النساء الرقيق حيث أجبرن على انجابهم من أجل الحاقهم بالجيش لحماية السلطان وعائلته. تقول فاطمة بابكر ” حتى يتسنى لسلطان الفونج فرض كامل سيطرته على الدولة كان لابد به من الاستمرار فى حملات جلب الرقيق وتحجيم منافسة طبقة التجار له على السلطة السياسية. وانطلاقا من هذا المنظور تعرضت جموع النساء المسترقات الى عمليات الاستغلال الجنسى المنظمة من قبل الدولة لتحقيق الأغراض التالية:
أولا: توفير الجند لجيش السلطة من أبناء المسترقات، حيث كانت الدولة تقوم برعايتهم وتنشئتهم ومن ثم الحاقهم بالجيش.
ثانيا: امداد القوافل التجارية بأعداد كافية من الرقيق من الجنسين وذلك للقيام بأعمال الحماية وكافة الخدمات بما فى ذلك الخدمات الجنسية أثناء الرحلات الطويلة.
ثالثا: الحاق أبناء المسترقات بالخدمة فى مؤسسات الدولة لضمان عدم منافسة أى مجموعة عرقية أخرى للمجموعة الحاكمة على السلطة.
جعلت فاطمة بابكر فى دراستها هذه وبالمنظور الذى يركز على تجارة الرق فى السودان مهمة ومسئولية سلطان دولة الفونج ومن يساعده فى رعاية الدولة تنحصر فى أن يكون وسيطا لمهنة لم تجد من يعترف بها فى أى مجتمع قديما أو حديثا رغم أنها ظاهرة موجودة وممارسة عبر التاريخ. وعلى الرغم من الصدمة المتوقعة التى تصيب القارئ لمثل هذه الكتابات والتى من المفترض أن تكون موثقة، لم تستند فاطمة على أى مرجع يصف لنا حدوث ذلك وتركت الأمر لاستنتاجاتها ونظرتها الخاصة لتوضح للقارئ كيف حافظ سلاطين الفونج على حكمهم بين عامى (1504-1821). لهذا الغرض فى رأى فاطمة بابكر كانت “الغزوات من الممارسات الثابتة لسلاطين الفونج، حيث يشرف السلطان فى كل عام على غزوات جلب الرقيق عن طريق مجلس مختص. وذلك من أجل “1- توفير الخدمة الجنسية للمسافرين على القوافل. 2- تراكم الربح وتوفير الجند للجيش.”
لقد كان الهدف الأساسى من دراسة فاطمة أن توضح لنا العلاقة بين الدولة وطبقة التجار وعملية اعادة الانتاج فى نظام مملكة الفونج وذلك من خلال الاستغلال الجنسى للمرأة وبعد تأكيدها لهذا الدور فى تأمين الجند للحفاظ على السلطة وتكدس ثروة التجار تستدرك فاطمة لتقول عن هذا الاستغلال الجنسى المنظم من قبل الدولة “ان هذا الشكل من الاستغلال لم يتم تناوله فى الكتابات عن سلطنة الفونج الا أن هذا لا ينفى أهمية الدور الذى لعبه فى عملية انتاج جيوش السلطنة” من جانب وتنمية ثروات التجار فى دولة الفونج وهنا فقط تعتمد على بعض الرحالة دون ذكر لاسم المرجع الذى اقتبست منه وذلك حين تشير الى “أن الأثرياء من التجار كانوا يعدون النساء المسترقات للعمل فى الدعارة فى المدن التى تقع فى طرق التجارة، وكان يخصص للفتيات مكان خاص لاقامتهن ويمنحن منحة شهرية ثابتة بالاضافة الى منح سادتهن. ويضيف سبودلنج ان بعض الأعيان الذين تخوفوا من منافسة التجار لهم تبنوا نفس النظام.”