منى أبوزيد تكتب: في أدب السُّجون..!
منى أبوزيد تكتب: في أدب السُّجون..!
“الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا”.. أورهان باموق..!
رواية القوقعة “يوميات متلصص” للكاتب السوري مصطفى خليفة أقنعتني بإعادة صياغة مفهوم الشعور بالقرف مُطلقاً، بعد أن أقلقت روحي بأطنان من الغثيان الاستثنائي، فبقيت في حيرةٍ بعد قراءتها، هل أشعر بالرضاء عن – أم السخط على – أسباب وقوعها بين يدي..!
بعد فراغي من قراءتها بقيت ساهرة مع إلياذة العذاب والتعذيب تلك، أقرأ، أتململ، أفكِّر، أركض لاهثة، وراء تيار وعي الكاتب “البطل” وهو رجل مسيحي يحمل اسم مسلم، درس الإخراج في فرنسا وعاد إلى بلاده فأُلقي القبض عليه واُتّهم بالانتماء إلى الإخوان المسلمين، وسُجن لأكثر من اثني عشر عاماً قبل أن يفرج عنه، فيخرج من قوقعة السجن ليعيش سجين قوقعة العزلة..!
الرواية المكتوبة بلغة المذكرات اليومية تنتمي بوضوح إلى ما اُصطلح على تسميته بأدب السجن، وهي تشبه في ذلك – على الأقل – رواية “العريس” للكاتب المغربي صلاح الوديع التي تحكي – بدورها – قصة شاب ذهب لحضور عرس ابن عمه فاعتقل وتم سجنه وتعذيبه، وكذا الحال مع صاحب “القوقعة” الذي اُعتقل وسُجن، فكتب تقريراً روائياً لما عاش ورأى..!
المُلاحظ أنّ الواقعية والتقريرية قد باتت موضة في المشهد الروائي العربي الذي انتقل – مُؤخّراً – من السرد الأدبي إلى السرد التقريري. “تفاصيل يومية، سيناريوهات واقعية، نقل أمين ودقيق وجريء، ثم تعويلٌ مُطلقٌ على حصاد دهشة القارئ جرّاء بعض البوح العظيم”..!
كان الطيب صالح إذا أراد أن يصف شخصاً – أو شيئاً ما – يختزل المعاني في جُملٍ قصيرة، سهلة، مُمتنعة، مُشبّعة بالمعنى، محفزة للخيال. جملاً بديعة على غرار “منسي إنسان نادر على طريقته”. وكان نجيب محفوظ إذا أراد أن يقرر حقيقة عارية يكسوها ثوباً كرنفالياً من المفردات، فيكتب جملاً فاخرة على غرار “إن الزمن الذي يذيب الصخور ويفتت الصروح ويُغيِّر وجه البسيطة” …إلخ..!
وعلى عكس الرُّوّاد العرب، هنالك رُوّادٌ عالميون انتهجوا تقرير الواقع بتصرف مثل ماركيز الذي كان يمعن في قراءة الصحف في باكورة عهده بالكتابة عندما اكتشف خط الواقعية الرقيق الذي يَفصل بين الأدب والصّحافة التي شكّلت مرآة الحاضر المعيش الذي جعل منه وقوداً لواقعيته الروائية السحرية. وقد ذكر ماركيز غير مرةٍ أنّ مُخطّط رواية “وقائع موت مُعلن” – تلك الرواية الساحرة التي بنيت على أحداث واقعية – قد ظلّ قابعاً حبيس أدراجه لمدة ثلاثين عاماً، لا لشيءٍ سوى أنّ والدته كانت قد طلبت منه أن ينتظر – على الأقل – حتى تموت جارتهم “أم البطل” الثكلى، قبل أن يشرع في نشر الرواية..!
أما مصطفى خليفة كاتب رواية القوقعة – وظل حكايتها الحقيقي – فيبدو أنه قد أخذ على نفسه عهداً بالبكاء والنشيج على حائط حقوق الإنسان في العالم العربي. اجتهد الرجل في تفسير الماء على طريقته، ومن ثم فهو ينذرك بما تعلمه سلفاً في عالمك العربي هذا أو ذاك. ليس أسهل من أن تسجن أو أن تتعذّب حتى الموت إذا ما سوّلت لك نفسك يوماً أن تمارس حقك في اختيار مَن يَحكُمك لا مَن يتَحكَّم بك..!