د. ضيو مطوك يكتب: الكابلي يحتضنك ثرى السودان فمثلكم لا يموت
أعيد نشر هذا المقال الذي كنت قد كتبته قبل عامٍ من الآن أي مباشرةً عقب وفاة حبيبنا منشدنا ومطربنا وأستاذنا الفني عبد الكريم الكابلي، وهذا اليوم الذي يعود فيه رفاته ليدفن في ثرى السودان نعتبره يوماً عظيماً لنا أحباب الفنان الكبير كابلي.
تعود معرفتي بالفنان الشامل العظيم الراحل المقيم عبد الكريم عبد العزيز المشهور بالكابلي عبر صوته الأخاذ الطروب وموسيقاه الراقصة البديعة الخلاقة وألحانه الشجية وذلك عبر إذاعة أم درمان حيث أنني كنت أمنح أذني مساحة كافية وأفرغ كل وقتي لاستمع للبرنامج الإذاعي التفاعلي الكبير والذي كان يبث من إذاعة أم درمان “ما يطلبه المستمعون” خاصة الأغنية “ماذا يكون حبيبتي” للشاعر الكبير حسن عباس صبحي، حينها كنت في حوالي الخامسة عشر من عمري وحتى تلك الفترة لم تكن أعيني قد اكتحلت بمشاهدة الفنان عبد الكريم الكابلي.
وشيئاً فشيئاً تعمّقت علاقتي بالرجل في بداية الألفينات من القرن الحالي حينما كان يقدم برنامج التراثيات بالتلفزيون السوداني؛ وفي إحدى السوانح أتيحت لي فرصة أن أكون أحد ضيوفه حيث سجلنا ثماني حلقات عن تراث قبيلة الدينكا. وتحدثنا حديثاً مستفيضاً أثناء وخارج فترات تسجيل الحلقات.
بعد ذلك نما لعلمي بأن الأستاذ الكابلي كان يعد مشروع دراسة دكتوراة في مجال التراث الشعبي السوداني.
في ذلك البرنامج التلفزيوني الرائع فاجأنا الرجل باستضافته معي إلى الاستديو أحد المعجبين بفنه وصوته وكان مقلِّداً ممتازاً للكابلي وهو الأخ الفنان أنجلو اوضل اشين المشهور بالكابلي الدينكاوي من أبناء التونج ببحر الغزال.
قدّم الرجل نفسه وتغنى ببعض الأغنيات للأستاذ الكابلي مما أثار إعجاب ودهشة الجميع داخل الاستديو وبكل التأكيد خارج الاستديو عبر شاشة تلفزيون السودان العريقة.
في تلك اللحظات لم يتمالك الأستاذ الكابلي من السيطرة على مشاعره وإعجابه بهذا الفنان الرائع الكابلي الدينكاوي وقدّم له العود الذي كان يحمله داخل الاستديو هديةً له بعد أن أنصت له بشكل كامل.
توثقت علاقتي بالفنان كابلي أيام وجودي في المعارضة بعد أن استمعت إلى أغنيات في الحب والجمال والثورة والتراث والحياة بدروبها المختلفة حلوها ومرها وحيثما كنت إذ كنت في الغربة ويبعث فيك الآمال بأن الوطن أكبر منا جميعاً والغد أجمل سواء كنا أحياء أو أموات فالوطن هو موطن الأجيال حتى وإن ضاق الحال:
(غريب والغربة أقسى نضال
غريب والغربة سترة حال)
والوطن مغروس داخل الكابلي ويكفي أن أغنياته تتحول إلى مقولات وطنية (القومة ليك يا وطني).
ولأغنية “قمر دورين” وقع خاص في نفسي إذ ربط فيها الوطن بدواخلنا عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا في جمال الأوطان وخاصةً السودان الكبير.
أتيحت لي فرصة زيارة الولايات المتحدة في العام 2015م، وقرّرت أن أفاجئ دكتورنا الكابلي وقمت بزيارته في منزله بفرجينيا لكن مع الأسف فوجئت بان الأسرة رحلت إلى مكان آخر ولم أتمكن من اللقاء به وكان برنامج زيارتنا للولايات المتحدة ضاغط شديد مما جعلني أعود إلى أفريقيا دون اللقاء بحبيبنا الكابلي.
وحينما قرّر السودانيون عبر شركة دال التي دعمت ورعت تكريمه قبل ثلاثة أعوام، في ذلك البرنامج الكبير الذي يشبه الكابلي حيث خرج التكريم كأجمل ما يكون، ولكن بكل أسف وبسبب عدم معرفتي بتاريخ التكريم فاتني شرف الحضور والمشاركة وقد حز ذلك كثيراً في نفسي وربما كان ذلك الوداع الأخير بالنسبة له.
عام كامل مر الآن
في مثل هذا اليوم الذي فارقنا فيه حبيبنا الكابلي نقول بأنك ستكون في وجداننا ما حيينا ولن تفارقنا لأنك شكّلت وجداننا، علمتنا كيف نتذوق جميل اللغة وروعة الموسيقى وحسن الأداء، فأنت ملك ملوك الطرب بالنسبة لي.
أغنياتك تسير في دواخلي مسير الدم في العروق (أطير في الفضاء محلقاً) حينما استمع إليك.
حالة الطرب التي تنتابني عند سماعك لا يمكن أن أوصفها بالكلمات.
علّمتني يا أستاذي معنى حب الوطن (وإنت عندي كبير وريدي ليك كتير) والقومة ليك يا وطني ونحن في حالة قيام دوماً تلبية لنداء السودان الكبير..
وفي جميلة يا قمر دورين أنا شفتك وين؟ تتجلى روعة الليل وضفائر النيل والإبداع الجمالي واللحني الذي لا يكمل لوحته إلا الكابلي.
في الغناء الثوري تكفيك (هبت الخرطوم في جنح الدجى ضمدت بالعزم هاتيك الجراح). وتتمدّد سيولك الفنية وأنت تتغنى لمؤتمر باندونغ الشهير حيث دول عدم الانحياز. يكفيك أنك تغنيت للثورة وللتراث (ويسلم لي خال فاطنة) وتغنيت بالعربية فصيحها وعاميتها وأبدعت في أغنيات السيرة منقباً وباحثاً في التراث وناثراً لفنونه وإبداعاته المتنوعة.
تعزف على آلة العود كأجمل ما يكون العزف، وتكتب الشعر بكل جماليات اللغة، وتلحن كأبرع الملحنين، وتتهندم كأجمل ما يكون الزي والهندام وتقف محتضناً للعود الذي تحبه حباً لا تضاهيه محبة، وتنطلق حنجرتك الذهبية تسبقها (نحنحة) محببة لمعجبيك.
عبد الكريم عبد العزيز الكابلي يا قامتنا الفنية الشاهقة يعود اليوم رفاتك لترقد في السودان حيث ولدت وترعرعت وحبيت هذا الوطن وتغنيت له بأجمل ما يكون الغناء غنيت له بالفصحى والعامية، بالحب والثورة بالمدح والرثاء وأوبريت مروي والشريف الهندي، ودنياك العريضة زهور تضحك معاكا لكن الشئ المؤسف جد أنني متواجد في الولايات المتحدة حيث يغادر رفاتك ولم استطع أن أودعك كما لم استطع استقبالك بالخرطوم نتيجة لارتباطي بالاجتماعات في الأمم المتحدة.
فيا ملهمي وأستاذي وقيثارتي أرجو أن تقبل عذري بعدم تمكني من وداعكم وإلقاء النظرة عليكم رغم أن ذلك دينٌ عليّ، لكن ظرفي كان أكبر من ذلك، فأنت خالدٌ ومخلدٌ في دواخلنا نحن الهائمون بحبك الأبدي.
خيراً فعلت أسرتكم الكريمة وهي تنفّذ وصيتكم بأن تدفن في ثرى الخرطوم بحري، لكني على ثقة أنك لا تموت يا كابلي لأن كل إبداعك محفوظ وسوف يورث للأجيال.
أخوك المكلوم دكتور ضيو مطوك
وزير الاستثمار في دولة جنوب السودان