16سبتمبر 2022م
كان وهماً..
وهماً يبدو لنا جميلاً..
أو ربما كوهم شاعرنا صديق مدثر..
ذلك الذي تغنّى به الكابلي لحناً عبقرياً (كان وهماً كان رمزاً عبقرياً)..
وهماً أبيض… كبياض أسنان حامله الذي يعرضه للبيع..
وظل يعرضه حينا دون أن يجد له مشترياً..
يعرضه علينا نحن – بتلكم الصحيفة – بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي..
ولا أدري إن كان يعرضه على آخرين أيضاً أم لا..
ولكن ما أعلمه أنه لم يشتره منه أحد لما يقرب العام… وهو لا ييأس أبداً..
كما لا تفتر له ابتسامة تكشف عن أسنان في لون وهمه..
أما لوثته فكانت بيضاء كذلك..
كبياض وهمه… وسنونه… وجلبابه؛ ليست مؤذية..
وكان يضعه على طاولة الاستقبال – ذلكم الوهم – وينظر إلينا مبتسماً..
أو ينظر لمن يصادفه عند مدخل الصحيفة..
ثم يصيح بصوت فرائحي أجش (وهم للبيع… تشتروا وهم؟)..
وقد يضيف عبارة (يا وهم)؛ ثم ينفجر ضاحكاً..
وفي يومٍ انفجرت أنا غيظاً؛ وقررت أن أضع نهاية لمسلسل الوهم هذا..
فذهبت إليه وسألته: كم تريد سعراً لوهمك؟..
وعجبت للمبلغ الذي طلبه مقابل وهمه؛ وانفجرت في وجهه بغيظ أشد..
وبقدر انفجاري غيظاً انفجر هو ضحكاً..
ثم دمدم بصوته المرعد: وهل يساوي هذا المبلغ شيئاً نظير راحتكم؟..
أي راحتنا منه… ومن وهمه… ومن إزعاجه..
فقلت في سري: منطق (برضه)؛ ولا يتناسب مع عقلٍ به شيءٌ من لوثة..
واشتريت الوهم؛ وكان عبارة عن خوذة..
وإذ أسرد هذه القصة اليوم فقد انتبهت إلى أنني طوال حياتي أشتري الوهم..
ثم انتبهت – أكثر – إلى أنني لست وحدي..
فظاهرة شراء الوهم لا تقتصر على شخصي فقط… وإنما جميعنا فيها سواء..
جميعنا كشعب سوداني مسكين..
فلا فرق بين وهمٍ ذاتي… وآخر جمعي..
وإن كنت أزيد على الآخرين بالذاتي هذا؛ أو ربما يشاطرني فيه بعضهم..
فإن اشتريت بطيخة – مثلاً – وجدتها بيضاء… أي وهما..
وإن اشتريت فرخة وجدتها من صنف (الله قتلها) ولو كانت من محل فخيم..
أي من التي تموت جراء مرضٍ ما… فتُسمى كذلك..
فأكون قد اشتريت لحماً – أقصد وهماً – أبيض..
وإن اشتريت قلم حبرٍ جاف وجدت حبره هذا تجمّد قبل أن أخط به سطراً..
فبات وهماً… رغم إنه كان قلماً لحظة تجريبي له..
ثم إنني اشتريت أوهاماً سياسية وفكرية وثقافية عديدة… طوال مسيرة حياتي..
فوجدتها جميعها وهماً أبيض في لون ما أشتريه من بطيخ..
أو في لون خوذة بائع الوهم ذاك..
وكفردٍ من شعبنا التعيس أشاركه شراء أوهامٍ عامة… فوق أوهامي الخاصة..
فقد ندفع (دم قلبنا) مقابل ما نظن فيه الخير لنا..
ثم نُفاجأ بأننا بذلنا (دم قلبنا) هذا فيما لم نجن منه سوى (وجع القلب)..
بل ربما ندفع دماءنا نفسها؛ فعلياً لا مجازياً..
فإذا بالذين جادوا بدمائهم هذه منا فقدوها نظير لا شيء… محض وهمٍ كبير..
ونظل نحن الأحياء نتحسّر عليهم… وعلى ضياع أملنا..
وامتلأت أرفف ذكرياتنا بعديد الأوهام..
امتلأت بالخوذات البيضاء… والبطيخ الأبيض… ولحوم (الله قتلها) البيضاء..
والآن إذ فرغت من كلمتي هذه فقد عنت لي خاطرة..
وهي أن أضعها داخل خوذة بيضاء..
ثم أذهب بها إلى كل واحدٍ – من الأحياء – ممن باعونا أوهاماً سياسية جميلة..
وإلى الأموات منهم كذلك..
فشريناها كما يشتري (الموهوم) الترماي؛ فنحن شعبٌ (مؤمنٌ) صدِّيق..
ثم أخبطها على طاولته… أو على قبره..
ثم أصيح بصوت أجش وأنا أرسم ابتسامة صفراء – لا بيضاء – على وجهي:
أتشتري وهماً؟..
يا (وهم)!!.