15 سبتمبر 2022م
وكانت زهرة..
كانت اسماً على مسمى..
وكانت تعمل بمصنع هو نفسه زهرة المصانع…في زمانٍ نضرٍ كالزهرة..
وهو مصنع تعليب الخضر والفاكهة بكريمة..
وكانت في لون المنقة ؛ وكأنها التي قيل فيها (لون المنقة يا الشايل المنقة)..
وذلك في أغنية المنقة…للبلابل..
وكأنما – أيضاً – أصابتها لعنة الشقاء المذكورة في الأغنية المنقاوية هذه..
إذ يقول شاعرها (مش عارف كيف نحنا بنشقى)..
فقد شقيت يوماً – زهرة – بالفاكهة التي هي في لونها هذه…وسُميت بها..
كانت ترمي بقطع المانجو داخل الخلاط الضخم..
فاعتصر الخلاط هذا يدها بدلاً من المانجو ؛ وأفرز عصيراً دموياً قانئاً..
وكل عينٍ بالمصنع – يومذاك – أفرزت دماً..
وكأن أصحابها تمثلوا قول المغني النعام آدم (يا عيني أبك دمع الدم)..
بل بكتها كل عينٍ بمدينة كريمة..
وقد سرى الخبر بين أرجائها سريان النسيم بعطر زهرة في الأجواء..
وبكتها حتى مدرستنا ؛ ونحن صغارٌ بها حينذاك..
ولم يماثل الخبر سرعة انتشارٍ إلا خبر الزين…في رواية عُرس الزين..
ونعني خبر نيته الزواج…وقبول العروس به..
وحل محل ناظر المدرسة – في الرواية هذه – أستاذٌ لنا كان الأشد بكاءً..
وحليمة بائعة اللبن هي من نقلت الخبر إلى الناظر..
ولكن في حالتنا هذه – حالة زهرة – لا أدري من الذي قام بدور حليمة..
وكما الناظر في الرواية انفلت معلمنا هذا من الحصة..
ولم نعلم إلى أين ذهب وهو يغادر مسرعاً…وباكياً…ومنزعجاً ؛ هكذا..
حتى الروس بكوها دمعاً دامياً..
وقد كان من مهامهم الإشراف على المصنع حيناً عقب فراغهم من إنشائه..
فاقترحوا تسفيرها إلى موسكو على عجل..
فوافقت إدارة المصنع…ووافق وزير الزراعة…ووافق مجلس الوزراء..
فالزمان – كما قلت – كان هو ذاته زهرة..
كان زماناً نضراً كالزهرة…وقلوب الناس متفتحة – جمالاً – كما الزهرة..
وعادت زهرة بيدٍ إصطناعية جميلة..
وعادت إلى معلمنا ذاك زهرة شبابه بعد أن كان ذبل…وشحب…و شاخ..
ولعلنا علمنا – وفهمنا – بعد أن كبرنا قليلا..
ثم غشيت الزمان…فالبلاد…فالمصنع…فقلوب الناس…غاشيةٌ أذبلت الزهرة..
فصار كل شيء ذابلاً من بعد نضار..
وذبل مصنعٌ كان يغطي حاجة بلادنا من عصائر – ومربى – الفاكهة..
ومن معلبات الخضر كافة..
ثم ما يفيض من منتجاته هذه يُصدر إلى الخارج بديباجة (صُنع في السودان)..
وذبلت مصانع للنسيج…والخيش…وتجفيف البصل..
وذبلت زهور كلٍّ من مشروع الجزيرة…والسكة الحديد…والنقل المائي..
وذبلت قلوبٌ للحاكمين كانت ترق حتى لمثل حالة زهرة..
وذبلت وجوهٌ للناس كانت تشابه وجه زهرة الذي يشبه – بدوره – المنقة..
وأمسى لسان الحال يحاكي لسان النعام إذ يغني:
يا عيون أبك دمع الدم…الزمان بعذابي حكم
بمثلما حكم على من كانت تُشبَّه بالمنقة…وفي لون المنقة…أيام زمنٍ كالمنقة..
ثم لا بواكي لمعذبي اليوم كبواكي معذبة الأمس..
زهرة !!.