تأخَّرتْ الاستِجَابة ..!
“كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حريصاً على ألا يشيع الفساد في قريش، ولم يكن يَتحيَّز إلى أقرب الناس إليه فيهم” .. د. علي الوردي ..!
في حوار “قناة الحدث” – الأخير – مع سعادة الفريق “عبد الفتاح البرهان” سألته الزميلة “لينا يعقوب” عن آخر لقاء له مع الرئيس السابق “عمر البشير” فقال إنه كان ساعة إبلاغه بقرار النهاية. وقال إن هذا الأمر كان مخططاً له، بعد أن سبقه طلب تقدمت به القوات المسلحة إلى الرئيس السابق، بوجوب إحداث تغيير، لكن التغيير أتى قسرياً عندما تأخرت الاستجابة ..!
وهو – على كل حال – مسلسل تاريخي، ظل يتكرر قبيل كل تغيير ثوري، تكرر حديثاً عقب اندلاع ثورات الربيع العربي. من تونس التي أتت فيها قولة “بن علي” الشهيرة “فهمتكم” بعد فوات الأوان بتوقيت الثورة. إلى مصر التي جاء فيها خطاب تنحي “حسني مبارك” متأخراً بتقديرات الثوار. إلى ليبيا التي عجزت فيها ساعة “القذافي” عن الإشارة إلى التوقيت الصحيح للنهاية، فانتهى الأمر به طريداً ثم قتيلاً على أيدي الثوار ..!
والسؤال هنا: لماذا تتأخر الاستجابة دوماً، وكيف لها أن تفعل في ظل تشابه الظروف الثورية، والطرق الشعبية، واللغة الجماهيرية، في الجهر بكلمة “لا” الواضحة، القاطعة، والحاسمة؟!. لماذا تتأخر الاستجابة دوماً، رغم وضوح المشاهد، واحتشاد التقارير الأمنية بمظاهر السخط الشعبي، وصنوف التمرد الصاخب، وألوان التحليلات الإخبارية – المقروءة والمسموعة والمرئية – التي تُنذر بحلول النهاية، بكثيرٍ من القرقعة ..؟!
لماذا تتأخر الاستجابة دوماً بعد أن تتحول قصائد المدح مدفوعة الثمن إلى قصائد ذم مجهولة المصدر، ونكات سياسية سوداء، يتداولها رواد مواقع “الواتس أب” و”الفيس بوك” بكثيرٍ من الحماسة وقليلٍ من الحذر. وبعد أن تتحول نتائج الانتخابات المصفوفة على نحو يوحي بفوزٍ ساحق إلى تقارير اقتصادية كارثية تنذر بالسقوط. وبعد أن تتحول حشود التأييد المصنوعة خوفاً أو طمعاً إلى جموعٍ ثائرة، وحناجر ملتهبة، تُطالب بالرحيل، وتَتوعَّد بالقصاص، وتُعلن العصيان ..؟!
لماذا تتأخر الاستجابة دوماً رغم فتور النظرات في عيون الحلفاء، والتماعة التحَفُّز في عيون المعارضين، وتلجلج الإجابات المطمئنة في أفواه الأنصار، واحتشاد الأسئلة العصية بين الجدران وخلف الأبواب، وتراجُع التهليل وانحسار الحماسة، في حركات وسكنات المودِّعين والمُستقلبين ..؟!
إنها آفة البطانة، ولعنة الحاشية. تلك الطبقة العازلة، الرخوة، تلك الطغمة الزئبقية اللزجة، التي تأخذ شكل الإناء الذي تُصَب فيه المصالح، وتُطبخ فيه الدسائس، وتُسكب منه المؤامرات السوداء، والأكاذيب الصفراء، والكوارث الحمراء القانية ..!
إنها تلك البكتيريا التي تتكاثر، وتتعاضد، وتتآمر، وتتناسل، في غفلةٍ من صاحب الوقت والأمر، الذي طال قعاده على الكرسي، واستطال مكوثه في القصر، حتى تفاقَم حجم المسافة الفاصلة بين وجوده الفيزيائي – وحضوره القيادي – وطنين الناس في الأحياء والشوارع، وأزيز الأسعار في الأسواق، وأنين المرضى، وقرقرة البطون، في بيوت المستعففين ..!
هي ذات الحاشية التي تمتَصُّ دماء الشعوب، وتطغى، وتفسد في الأرض، وتتحدث بلسان الحاكم، وتتكسَّب من وراء حجابه. تروِّع الرافضين، وترشو الطامعين، وتجفف منابع الأمل في الإصلاح، وتقطع الطريق على التغيير. ثم تستغفل، وتكذب، وتتزَلَّف، وتُنافق، وتُدلِّس العيوب، وتُزوِّر الحقائق، مع سبق إصرارٍ وطول تَرصُّد ..!
والنتيجة دوماً هي “أن تتأخر الاستجابة”، فتقع الكارثة على أم رأس صاحب الكرسي، الذي استحق وقوعها لأنه أفرط في العنف، والقمع، والتغافل، والتجاهل. لأنه أفرط في الثقة، وأفرط في التسويف والمماطلة. ثم فرَّط في الإصلاح، والتجديد، والتغيير. فاستحق أن يُجتث، وأن يُخلع، وأن يدفع أثماناً مُقدَّرة لنتائج راجحة ترتَّبت على إفراطه الواسع، وتفريطه الجامح ..!
أما الحاشية فما يظهر على السطح منها يحيق به ذات المصير. وأما البقية الباقية فدورها التاريخي هو أن تأخذ شكل الإناء الجديد. فتتذرّع بتراتبية العمل الإداري، ومقتضيات الرق الوظيفي. وتتبرأ من ما فات، وتتبرَّع في ما هو آت. ثم تنحني لعواصف الثورة، قبل أن تخرج من مخابئها، وهي تجتهد في الذوبان بين جموع الإصلاح، وحشود التغيير. ثم تظهر لتسويق حضورها – من جديد – بكثير الحذر، والحَدب، واللُّطف، و”رِقَّة الحاشية” ..!
منى أبوزيد