منى أبوزيد تكتب : يَحدُث للآخَرين فقَط..!
13سبتمبر 2022م
“أنت تمر بالأطوار المُعتادة، في البداية أنت لا تعرف، بعد هذا أنت لا تلاحظ، ثم تلاحظ فلا تصدق، ثم تصدق فلا تعرف ما ينبغي عمله. في حياة كل إنسان لحظة لا تعود الحياة بعدها كما كانت”.. د. أحمد خالد توفيق..!
الدكتور “رفعت إسماعيل” – كما يعلم مُعظم أبناء جيلي من قُرّاء روايات مصرية الجيب – هو بطل سلسلة “ما وراء الطبيعة” لعراب ذات الجيل الكاتب المصري الفذ د. أحمد خالد توفيق – رحمه الله – وهو تجسيد ذكي لشخصية “نقيض البطل” في الأدب والدراما، كما ينبغي لها أن تكون. فهو طبيب أعزب جاوز السبعين من عُمره، نحيلٌ، مُعتل الصحة، يُدخن بشراهة، ويُكابد أمراضاً مزمنة مثل الربو وضيق الشرايين التاجية وقرحة المعدة..!
ولأن كاتب سلسلة روايات “ما وراء الطبيعة” قد اختار تركيبة “الأنتي هيرو” – أو نقيض البطل – فالدكتور رفعت شخصية عصبية تميل إلى انتقاد الآخرين وتضيق في ذات الوقت بانتقادهم إيّاها، تُسرف في إصدار الأحكام القاطعة ثم تَعمد إلى التشكيك بتلك الأحكام. ولعل تلك العيوب الكثيرة والشائعة هي السبب الرئيسي في أيقنة القراء لشخصية “رفعت إسماعيل” واقتناعهم بفلسفاته العميقة في تشخيص البشر وتصنيف مواقفهم بناءً على انعطافات ذهنية ذكية وساخرة قَلَّ أن تجود بها قريحة كاتب..!
ومن تلك الانعطافات الذهنية التي اشتُهرت بها شخصية “رفعت إسماعيل” حديثه عن قاعدة “يحدث للآخرين فقط”، وهي إحدى القواعد التي يُصنِّف من خلالها مُلاحظاته الذكية بشأن سلوك البشر الخطائين. وعن هذه القاعدة يقول المؤلف على لسان البطل إنّ هذه القاعدة تُثبت دوماً براعتها في بعث الطمأنينة في نفس مَن يعمل بها، ولكن حين يتّضح لك أنك قد كنت مخطئاً بشأنها قد يُصبح تصديق ما حدث أمراً عسيراً..!
على سبيل المثال أنت تعيش اليوم في مُجتمع موبوء بمرض “الكورونا”، لكنك قد تتعامل باستهتار مع مبادئ الوقاية من العدوى باعتبار أن “الكورونا” مرض يحدث للآخرين. لكن يشاء الله أن تصاب بذات المرض الذي كنت تظنه مصيبةً تحدث للآخرين فقط. هنا يبدأ خطك الدفاعي الثاني “إن هذا لا يحدث لي فعلاً”، وعندها تكون قد وقفت على أعتاب مراحل نموذج “كيوبلر” بشأن مراحل الحُزن الخمس. فتبدأ بالإنكار – فلا تصدق – ثم تغضب لأن هذا يحدث لك، ثم تبدأ في مساومة المصيبة، وعندما تفشل تُصاب بالاكتئاب والحُزن، ثم – ولأنّ “الحكمة الإلهية العليا تقول إن كل ألم يأتي معه برحمته” – تقبل ما حدث، ثم تجنح إلى التسليم..!
احتمال الإصابة بالمرض كان مثالاً فقط، ولك أن تقيس عليه موقفك من خيانة صديق كُنت تظنه صدوقاً لأنك كنت تعتقد أنّ خيانة الأصدقاء شأنٌ يحدث للآخرين فقط، أو حالك بعد انتهاء زواجٍ فاشل بدأته مع شريك كنت تحسب أن عشرته لا يمكن أن تبوء بالخذلان، لأنك كنت تعتقد أن خذلان الشركاء هو شأنٌ يحدث للآخرين فقط ..إلخ .. ثم يشاء الله أن تُفيق من ذلك الوهم الذي مفاده أن بعض الكوارث تحدث للآخرين فقط. بعد أن تُدرك – طبعاً – أنك لم تكن سوى أحد أولئك الآخرين الذي يعتقد معظمهم – بدورهم – أن ذات الكوارث تحدث لك أنت ولغيرك “من بقية الآخرين” فقط..!
إنها قصة العَشم الإنساني المُفرط في مواجهة بعض المخاوف الغَائمة بفعل سُحب الغيب، أو بعض الشرور العَائمة في مياه الاحتمال. هي قاعدة واقعية إذن وجديرة بالاتّعاظ، لأنها تشبهك وتشبهني وتشبه آخرين كُثرا ليسوا مُحصَّنين وليسوا خارقين. لذا فهي لم ترد على لسان بطلٍ أسطوري، بل قال بها نقيضٌ للبطل يشاركك بعض عيوبك، وانطفاءاتك، وهزائمك النكراء في معارك ثقتك ببقائك جافاً ونظيفاً على ضفاف بعض التجارب الآسنة..!