رحيل إليزابيث الثانية ينبش “الأساطير القديمة” المشوِّهة لتاريخ السودان
من بينها فرية تزويج الأمير يونس الدكيم من "جدتها" فكتوريا
كتب: فرح أمبدة
وافت المنية ظهر الخميس، ملكة بريطانيا، الملكة إليزابيث الثانية،عن عمر يناهز (96) عاماً، بعد أن قضت سبعين سنة في الحكم، وفاة الملكة المعمرة “كانت فرصة” لرواد التواصل الاجتماعي ومنتجي الحكايات الشفاهية التي يعج بها تاريخ السودان، فرصة لنبش “الأساطير القديمة” من بينها ما علق بجدة الملكة الراحلة، الملكة فكتوريا “ألكسندرينا ڤكتوريا” التي ولدت في 24 مايو 1819 وحكمت المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا من 20 يونيو 1837م، حتى وفاتها في 22 يناير 1901م.
تقول الأسطورة القديمة أن الخليفة عبد الله التعايشي، خليفة الإمام محمد أحمد المهدي، المولود بضواحي منطقة رهيد البردي بولاية جنوب دارفور في العام 1846م، وأصبح الرجل الأول في الدولة المهدية بعد وفاة المهدي في 22 يونيو 1885م، وامتدت سنوات حكمة حتى 1899م، أرسل رسالة تهديد ووعيد لملكة بريطانيا “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وقتها” يدعوها فيها للإسلام، قبل أن يقوم بختانها وتزويجها للأمير يونس الدكيم أن قبل بها.
هذه الفرية التي شوَّهت وما تزال تشوِّه تاريخ السودان، نُبِش قبرها هذه الأيام، لتكون “مادة تداول” غطت الفضاء .. فمن أين جاءت هذه الإشاعة ولماذا هي “بسبع أرواح” تموت لتحيا منذ أكثر قرن؟
الوثيقة الحقيقية
تقول الوثيقة الحقيقية أن الخليفة عبد الله أرسل خطاباً لملكة بريطانيا كما أرسل خطابات لملوك وزعماء العديد من الدول، وخص الملكة فكتوريا بخطاب خاص لأنها ملكة الدولة التي هزمها في أرضه، وطرد جندها، وقتل أشهر قوادها “غوردون”.
الفترة الڤكتورية
ألكسندرينا ڤيكتوريا، هيَّ ابنة الأمير إدوارد، دوق كنت وستراثيرن، رابع أبناء الملك جورج الثالث، ورثت العرش في الثامنة عشر من عمرها، لعدم وجود أبناء شرعيين من الذكور، بعد وفاة أشقائها الثلاثة الأكبر، معلوم أن الملكية الدستورية تؤول السيادة فيها للسلطة السياسية المباشرة. لكن، سراً، حاولت ڤكتوريا التأثير على سياسة الحكومة وتعيينات الوزراء، تزوَّجت ڤكتوريا من ابن عمها، الأمير ألبرت، عام 1840، امتد حكمها 63 سنة وسبعة أشهر، وقتها يعتبر أطول فترة حكم لملك بريطاني وأطول فترة حكم لملكة في التاريخ، حتى اشتهرت بالفترة الڤكتورية، وتميَّزت فترتها بالتوسع الكبير للإمبراطورية البريطانية لكن هذا المد التوسعي هزم في السودان علي يد الإمام محمد المهدي في العام 1885م.
ود تورشين من هو؟
يحكي عن سيرته، المؤرخ وأستاذ التاريخي بالجامعات السودانية الدكتور أحمد سمي جدو، في حديث لـ(الصيحة) :هو عبد الله بن السيد محمد بن علي الكرار بن موسى بن محمد القطب الواوي، وينتمي إلى قبيلة التعايشة فرع الجبارات أم صرة، ولد بقرية أم دافوق، من ضواحي منطقة رهيد البردي بولاية جنوب دارفور في العام 1846م، وقد تعلَّم قراءة القرءان وعلوم الحديث والفقه في مسيد أجداده، تحت إشراف جده الأكبر محمد القطب الواوي، الذي قدم من تونس، التي اشتهرت بالتصوُّف في ذلك الزمان، ويضيف سمي جدو: كان والده محمد بن علي الكرار، قد تنبأ بظهور المهدي في الشرق، والذي سوف ينهي الوجود التركي في السودان، ويقيم دولة الإسلام، ويحكم بالشريعة الإسلامية، التي سوف ينتشر العمل بها في أجزاء واسعة من السودان، واستناداً على نبوءة والده تلك، تحرَّك باتجاه الشرق باحثاً عن مهدي آخر الزمان الذي سوف يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً بفعل أولئك الأتراك.
عند ظهور الدعوة المهدية في العام 1881م، لازم الخليفة عبد الله المهدي، وقام بدعم موقفه، فأقر المهدي بأن الخليفة عبدالله هو أول خلفائه الأربع، لأنه كان أقواهم شخصية، وأفهمهم لطبيعة الدعوة المهدية على خلفية نبوءة والده بها.
ودكيم.. من هوَّ
يونس الدكيم ، هو واحد من القادة العظام في الثورة المهدية، ينتمي إلى قبائل البقارة وهو من أبناء عمومة الخليفة عبد الله التعايشي، وحسب الرواة فقد كان الدكيم رجلاً شجاعا ملما بفنون الفروسية، لذلك اوكلت اليه مهمة قيادة الفرسان وإخماد الثورات الداخلية والتمرد، عمل يونس الدكيم قائدا لسلاح فرسان الخليفة، وقبل سقوط مدينة الأبيض أرسله المهدي إلى دارفور لدعوة الرزيقات للانضمام إلى المهدية، وبعد وفاة المهدي، ظل ود دكيم مخلصاً للمهدية وبايع الخليفة الذي أرسله إلى كردفان على رأس حملة لإخماد عدد من حالات التمرد والثورات. وتم تعيين ود دكيم أميرا على دنقلا، وشارك في معركتي كرري و أم دبيكرات، وقد تم أسره في واقعة أم دبيكرات ونقل إلى سجن رشيد في مصر حيث قضى مدة طويلة في السجن ثم أُطلق سراحه وأعيد إلى السودان، وبقي في أم درمان حتى أدركته المنية في صيف عام 1935م عن عمر ناهز 130 سنة.
التاريخ الشفاهي
في تاريخ السودان، روايات شفاهية لا أساس لها من الصحة شاعت وراجت وتناقلها عامة الناس عن تاريخ السودان الحديث والمعاصر كاد يرقي بعضها إلى مصاف الحقائق وإحتل بعضها بالفعل مكان الحقيقة من طيات الثقافة الشعبية.
يقول السفير حسن عابدين، في بحث بعنوان ، الروايات الشفاهية مصدراً للتاريخ، ظل بعض المهتمين بتاريخ المهدية من الاتباع والمريدين يتداولون منذ أكثر من مائة عام رواية شفاهية أن الخليفة عبد الله التعايشي خليفة المهدي عرض على ملكة بريطانيا فكتوريا الزواج أن هي أسلمت واتبعت الإمام المهدي وأذعنت لحكم خليفته، وجاء في رواية أخرى يزوِّجها لخليله وصفيه وأحد أبرز الأمراء يونس ود الدكيم، رسخت هذه الرواية وكادت ترقي إلى مصاف الحقائق التاريخية المؤكدة من فرط التكرار والتناقل من جيل إلى جيل لنحو قرن.
النص الأصلي
“رسالة تزويج الدكيم من فكتوريا” تعد من بين أشهر الروايات المتناقلة شفاهة بشكل مغلوط وترسخت في أذهان العديدين، لكن السفير عابدين في بحثه آنف الذكر يفكك تفاصيلها ويكشف عوارها .. يقول: كنت قد اطلعت على نص الرسالة في الدار القومية للوثائق في سياق بحث عن الديبلوماسية الرسالية عند المسلمين وفي الدولة المهدية، إذ اتخذ الإمام محمد أحمد المهدي، ومن بعده خليفته منهج وأسلوب التواصل بالمنشورات والرسائل الخطية يحملها المبعوثون للزعماء القبائليين والدينيين والملوك والسلاطين داخل السودان وفِي دول الجوار وما وراء البحار.
أصل الرواية.. رسالة بعث بها الخليفة عبد الله عام ١٨٨٧(١٣٠٤ هجري) للملكة فكتوريا خاطبها في مطلعها بقوله “إلى عزيزة قومها فكتوريا ملكة بريطانيا، سلام على من اتبع الهدى
إنني أدعوك إلى الإسلام فإن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واتبعت المهدي عليه السلام وأذعنت لحكمي فإني سأقبلك وأبشرك بالخير والنجاة من عذاب السَّعير وتكوني آمنة مطمئنة، لك ما لنا وعليك ما علينا، وتتصل بيننا المحبة في الله”.
ثم أضافت الرسالة – الحديث للسفير عابدين- في فقرة أخرى التهديد والوعيد: “وأن أبيتي إلا الجحود اعتماداً على ما عندك من الاستعدادات والجنود فأعلمي أنك في غرور كبير كاسد فإن رجال المهدية طبعهم الله على حب الموت وجعله أشهى لهم من الماء البارد للظمآن.”
ويختم عابدين بقوله: وهكذا لم يرد في هذه الرسالة اليتيمة الأولى والأخيرة للملكة فكتوريا أي ذكر أو شارة لا تصريحاً ولا تلميحاً لمسألة الزواج التي روَّجت لها الرواية الشفاهية وخاصة بين صفوف طائفة الأنصار وعامة السودانيين كل ماعرضته الرسالة على الملكة الإسلام وليس الزواج.
عزيزة قومها
وصف الكاتب الشهير، الدكتور عبد الله علي إبراهيم، في مقال نشر في صحيفة (التيار) الذين يروِّجون للنص المزوَّر لرسالة الخليفة عبد الله إلى ملكة بريطانيا، الملكة فكتوريا، بأنهم أراذل قائلاً : ما أن ذاع خبر وفاة “عزيزة قومها” الملك إليزابيت حتى خرج أراذلنا بالنص المزوَّر لرسالة “سيد الأجمعين” الخليفة عبد الله إلى “حبوبتها” الملكة فيكتوريا يعرض أن تبني بالأمير يونس ود الدكيم هي رسالة موضوعة ووضيعة في وقت معاً”.
ويورد إبراهيم: تنص الرسالة المزوَّرة التي لا تزال تنتشر وتتمد في الوسائط الإعلامية الحديثة والقديمة بأن الخليفة عبد الله طلب من الملكة فكتوريا الدخول في الإسلام ليختنها فيزوِّجها من الأمير ود الدكيم، تقول حسب زعم من كتبها “من الخليفة عبد الله التعايشي خليفة مهدي الله إلى فكتوريا ملكة بريطانيا. سلمي تسلمي. نعرض عليك الدخول في الإسلام. فإن قبلت وآمنت دخلتي في دين الله طهرناك وزوَّجناك الأمير يونس ود الدكيم إن هو قبل بذلك. والسلام على من اتبع الهدى. الله أكبر والعزة للإسلام” وهو النص الذي اعتبره العديد من المؤرخين وعلماء التاريخ تزوير محض للحقيقة.
التاريخ المشوَّه عمداً
وللمؤرخ وأستاذ علم التاريخ بالجامعات السودانية الدكتور أحمد سمي جدو، ومؤلف كتاب الخليفة عبد الله في الميزان، رأي آخر، إذ يقول لـ(الصيحة) إن ما أشيع أتى في إطار الانتقادات التي وجهت للخليفة عبد الله على مر التاريخ، وهي انتقادات معلومة المصادر والهدف، ويضيف قائلاً: لقد كثرت الانتقادات والآراء حول الخليفة عبدالله ودوره في الحركة المهدية، وأدائه الإداري والسياسي، بل وحمَّلوه وزر سقوط الدولة المهدية في عهده، وبتفريط منه شخصياً، ووصفوه بالظلم والاستبداد السياسي، بل وقد تنكروا لكل مجاهداته والأدوار التي أداها في سبيل إرساء دعائم الدولة المهدية، وحولوها إلى حركة جهوية وعنصرية ومناطقية، لذلك فإن الرسالة المشوِّهة والمشوِّيه أتت في هذا السياق، ويسترسل: هذه النعوت والأوصاف لا تليق بشخص في قامة الخليفة عبد الله التعايشي، رجل الدولة الأول بعد وفاة مؤسسها الإمام محمد أحمد المهدي، ناسين ومتناسين الدور الذي لعبه في نصرة المهدية وتثبيت أركانها، بدليل إدارته وباقتدار للدولة لمدة 14 سنة.
نقد واعتذار
أما الكاتب عبد الله الحاج القطيني، فقد سطَّر في مقال له في صحيفة “الصحافة” في العام 2012 قائلاً: لا أدري على وجه التحديد من هو ذلك الشخص أو تلك الجهة التي أطلقت شائعة أنّ الخليفة عبد الله التعايشي قد كتب إلى الملكة فيكتوريا خطاباً يدعوها فيه إلى الدخول في الإسلام ويبشِّرها بأنها إذا دخلت في الإسلام فسوف يزوِّجها الأمير يونس ود الدكيم إذا قبل، ويقول للأسف أن الشائعة رائجة وسط السودانيين المتعلمين منهم وغير المتعلمين ومنذ فترة طويلة جداً، حيث تناقلتها الأجيال جيلاً عن جيل، وكنت شخصياً من ضحايا هذه الشائعة والمصدقين لها، وبعد اطّلاعي على الخطاب المذكور ضمن كتاب جغرافية وتاريخ السودان لنعوم شقير لم أجد إشارة إلى ذلك.
وأختتم بقوله: أول ما نلاحظه قبل التعرُّض لمحتوى هذا الخطاب، أن الخليفة لم يكتب فقط للملكة فيكتوريا وإنما كتب كذلك إلى السلطان عبد الحميد والخديوي توفيق باشا، وفي هذه الخطابات يدعوهم إلى اعتناق المهدية قبل أن تطأ جيوشه بلادهم.