10 سبتمبر2022م
سيدي السفير الموقَّر، دعني في البدء أرحِّب بك وبقدومك إلى دولة السودان كأول سفير لدولتكم العظمى بعد مرور حوالي ربع قرن من الزمان، كنا نرزح تحت وطأة الدول الراعية للإرهاب. والله يشهد أن السودان والسودانيين من أكثر شعوب العالم بعداً عن الإرهاب أو الاعتداء على الأشخاص المسالمين وقتلهم بدون مبرِّر، وديننا الحنيف يمنعنا منعاً باتاً بآيات محكمات من القرءان الكريم عن قتل النفس البشرية وحدَّد القصاص حكماً رادعاً لكل من يغترف مثل هذه الجريمة النكراء.
سيدي السفير أكتب لك هذه الرسالة وأنا أبلغ من العمر ثمانين عاماً، وكان قدري أن أشاهد رفع علم استقلال السودان عن الحكم البريطاني البغيض الذي جثم على أرض بلادنا لأكثر من نصف قرن بعد أن دخل إلى بلادنا عبر المعركة الشهيرة في العام 1899م، في منطقة جبال كرري شمال أم درمان، وقد كانت في الثاني من سبتمبر، والتي أبيد فيها ما لا يقل عن ثمانية عشر ألف مواطن، سوداني، بقوة السلاح الآلي الرهيب والذي كان أحدث سلاح في ذلك الزمان (المكسيم)، وقد قدَّم الشعب السوداني هؤلاء الشهداء الذين بذلوا أرواحهم غالية من أجل حريتهم وحرية بلادهم ورغبة أكيدة لينالوا الشهادة ليدخلوا الجنة.
وكتب عنهم أحد مراسلي الصحف الأمريكية حينئذ عندما وصفهم فقال: حاربنا اليوم رجالاً لم نشهد أو نسمع عن بسالتهم في التاريخ، تقدَّموا نحو الموت في بسالة وشجاعة آملين في دخول الجنة .
هزمناهم بقوة السلاح وهزموا معنوياتنا بثباتهم وحبهم للموت والشهادة في سبيل وطنهم ودينهم. وقال عنهم رئيس وزراء بريطانيا العظمى ونستون شيرشل عندما كان مراسلاً حربياً في تلك الحرب في كتابه حرب النهر(River War)
قال عنهم: حاربنا اليوم أشجع من مشى على وجه الأرض، دمرناهم بقوة الآلة وهزمونا بهذه الروح العالية تدافعوا نحو الموت وسلاحنا يحصد منهم الآلاف دون خوف أو تردد. وعلقت ملكة بريطانيا العظمى آنذاك بأن أسمت قائدها الذي ارتكب تلك المجزرة الجنرال كتشنر بجزار أم درمان على الرغم من ذلك لم يصلنا حتى هذه اللحظة من بريطانيا العظمى أي اعتذار أو حتى أسف أو قلق لوقوع تلك المجزرة، بل حتى الأسرى أرسلوا للسجون والمنافي خارج السودان وهذه هدى عدالة الحضارة الغربية .
هذا هو معدن الشعب السوداني سيدي السفير، أردت أن أذكر هذه الفذلكة التاريخية، وأكيد أنك تعلم الكثير عن الشعب السوداني وقيمه وأخلاقه وحبه لدينه ووطنه .
سيدي السفير أنا أعلم أنك بعثت من دولتك العظمى الموقرة لتمثل مصالحها في السودان، ولكن ما لفت انتباهي -كما علمت – أن سيادتكم لم تأت بمرجعية العمل الدبلوماسي (وزارة الخارجية)، بل جئت من المؤسسة الاستخباراتية وهو أمر يدل على أن دولتكم الموقرة تهتم بهذا الجانب من سياستها لتحقيق مصالحها في السودان.
وأنا أعلم علم اليقين سيدي السفير بأن دولتكم العظمى تنحاز لمصالحها على حساب قيمها ومبادئها وهذا الحديث لم يكن مني، بل من السيدة / هيلاري كلينتون، سيدة البيت الأبيض ووزيرة الخارجية السابقة لدولتكم العظمى عندما كتبت في مذكراتها (خيارات صعبة) وبوضوح إذا تعارضت مصالحنا مع مبادئنا فإننا ننحاز إلى مصالحنا لا إلى مبادئنا، إذاً فالأمر واضح بالنسبة لي كمواطن سوداني أن مصلحة أمريكا هي الأساس في علاقتها مع دولتنا الصغيرة الفقيرة، والدلائل على ذلك كثيرة جداً جداً في محيطنا الأفريقي ودول العالم الثالث (المتخلفة) كما قال رئيس دولتكم السابق دونالد ترامب، فإذا جاءت الديموقراطية بمن لا يخدم مصالحكم فأنتم ضده ومع الانقلابات العسكرية وحكم العسكر، والشواهد أمامنا واضحة كالشمس في محيطنا الإقليمي على الأقل .
لذلك سيدي السفير أسمح لي أن أخاطبكم بكل الصراحة والوضوح وأنا أرى بلدي السودان الحبيب الذي عشت فيه حتى الآن ثمانون عاماً، تتقاذفه التدخلات السياسية من عدد كبير من الدول، سواءً في محيطنا الجغرافي أو البعد العالمي وبمستوى لا يليق بالعمل الذى وضعت دولتكم العظمى معاييرها للعلاقات الدبلوماسية مع الدول، ومن مبادئها عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. هذه مبادئ مؤسساتكم، وأنتم من وضعها بعد الحرب العالمية الثانية، وأعطيتم “أنتم” الدول العظمى حق الفيتو لأي قرار يتعارض مع دولتكم وما على الدول الصغيرة إلا الانصياع التام للقرارات الشرعية الدولية، كما أسميتموها، الكبار ليس هناك من يحاسبهم ولدينا شواهد كثيرة في دول تتحدى كل العالم في عدم تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وتسجن من تشاء وتقتل من تشاء وتبيد من تشاء وهي محمية بحق الفيتو.
إذاً – كما ذكرنا سابقاً – فالمصالح هي التي تتحكم في علاقاتكم مع العالم وخاصة مع بلادنا .
نريد سيدي السفير أن نعلم منكم بوضوح وصراحة ما هي المصالح التي تريد دولتكم الموقرة أن تحققها في علاقتها مع شعبنا ووطننا حتى نستطيع أن نتعامل معها بما يحقق مصالحنا – أيضاً .
نعم، نحن دولة ضعيفة وصغيرة ولا تساوي وزن “بعوضة ” تطن في أذن الفيل الكبير القوي والذي لا نستطيع أن نفعل أكثر من أن نطن حول أذنيه، ثم إنكم سيدي السفير تتحدثون عن حكومة مدنية وعن تحوُّل ديموقراطي وهذا أمر لا نختلف معكم فيه والتحوُّل الديموقراطي لا يأتي إلا عبر انتخابات وطنية نزيهة ومحايدة تشارك فيها كل القوى السودانية بغير عزل لجهة أو جماعة.
الشعب السوداني عندما يذهب لصناديق الاقتراع هو الذي يحدِّد اختيار طريقة حكمه ومن يحكمه .
أما الحكومة الحالية هي حكومة فترة انتقالية ومهامها محدَّدة وواضحة وهي محاولة لتحسين الواقع الاقتصادي وتهيئة البلاد لإقامة انتخابات حرة ونزيهة لتأتي حكومة منتخبة بواسطة الشعب أياً كان توجهها علمانياً كما تحبون أوغير ذلك، عندما يقول الشعب السوداني باختياره الحر المباشر كلمته ويعطي الثقة لمن يختاره فما على الجميع إلا الانصياع لرغبة الشعب حتى لو أتت بما لا يوافق مزاج الآخرين محلياً وإقليمياً وعالمياً.
فإن كانت مهمتكم سيدي السفير- هي كما قلتم – مساعدة الشعب السوداني لقيام هذه الانتخابات وهي عملية مكلِّفة كما تعلمون، فما عليكم سوى المضي في هذا الطريق ودعمه بخبراتكم لإثبات حسن نواياكم ومصداقيتكم نحو التحوُّل الديموقراطي في السودان .
سيدي السفير لتحقيق هذه الغاية أرجو أن أناشدك أن يكون موقفك محايداً تماماً بين كل القوى السياسية الموجودة على الساحة الآن وأن لا تتقرب لجهة ما، دون الأخرى حتى لو كانت هذه الجهة في تقديراتكم هي التي تحقق مصالحكم.
لقد صدمت قبل يومين وأنا أستمع للراديو بأن سيادتكم قد عقدتم اجتماعاً مع ما يسمى بلجان المقاومة في كل أنحاء السودان وهذا أمر خطير للغاية ويدل بلا مواربة أنكم اخترتم من ترغبون في دعمه للوصول إلى حكم السودان .
سيدي السفير لجان المقاومة ليست حزباً سياسياً وليست مؤسسة قانونية وليست لها نظام أساسي أو نظم ولوائح لاختيار أعضائها أو قادتها، هي لجان شكَّلها الحزب الشيوعي بعد قيام الثورة ووجهها، وهو الذي يؤيدها ويحرِّكها بدعوى أنها التي تمتلك تحريك الشارع، وفي الحقيقة هي لا تمثل سوى الجهات التي شكَّلتها ودفعت بها لتتصدر الموقف السياسي، ومن قبل جاء السيد فولكر بأمر من الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي بخطاب حُرِّر للسيد رئيس الوزراء السابق ووقع عليه لاستجلاب ما يسمى بـ”اليونتامس” وهو منذ أن جاء بلادنا أظهر انحيازه لقوى سياسية لا تمثل سوى (1%)، لتحقيق مصالح كل دول الغرب في بلادنا، وهي أن يكون السودان دولة تقوم على الأيديولوجية العلمانية والبعد عن كل قِيَم الشعب السوداني وعقيدته وأخلاقه، وظل هذا الرجل يتدخل في كل شؤون حياتنا السياسية بدون خجل أو مراعاة لمشاعر الشعب السوداني وبدلاً من أن يكون عاملاً مساعداً في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية كان هو العامل الأساسي في استمرار هذه الفترة بدون أي رؤية أو وضوح بعد أن فشل في تحقيق أحلامه وأهدافه لتسليم السودان خلال هذه الفترة للقوى السياسية التي جاء من أجلها لحكم السودان وهو السبب الرئيس فيما نشاهده من خلافات وتجاذبات كادت أن تعصف ببلادنا ولا يخفى عليكم ذلك سيدي السفير، ونحن نعلم تماماً بأن السودان الذي تريدونه دولة مقسَّمة إلى عدة دول صغيرة لا حول لها ولا قوة، كما ترغب الصهيونية العالمية، ونحن نعلم أن وزير خارجية إسرائيل الأسبق وهي الحليف الثابت لدولتكم، وقبل أكثر من ربع قرن من الزمان، قال في محاضرة في فينا وبالحرف الواحد: (إن السودان دولة عظمى لن نسمح بقيامها)، وكأنه هو الإله الخالق الذي يتحكم في إرادة الشعوب.
إن هذا الحلم الذي يراود قادة الصهيونية في العالم لتمزيق وطننا لن يتحقق بإذن الله وسوف ندافع بأرواحنا وأرواح أبنائنا كما فعل أجدادنا من قبل في معركة كررى التي ذكرتها في مقدمة رسالتي.
سيدى السفير أمريكا دولة عظمى، بل هي سيدة العالم الآن، فماذا نرجو نحن السودانيين منها، نرجو من أمريكا أن تأتي لبلادنا مع رجال أعمالها ومستثمريها ليستثمروا في كل مناحي النمو الاقتصادي للسودان، نريد منكم شراكات في استخراج البترول والمعادن والذهب على وجه الخصوص وترقية الزراعة والثروة الحيوانية نريد من بلادكم العظيمة أن تدخل معنا في شراكات أي كان مستواها للاستفادة من إمكانيات وطننا والتي تعلمون عنها أكثر مما نعلمه نحن فأنتم تسيطرون على الأرض والفضاء وتصورون كل عالمنا بل حتى حركتنا داخل منازلنا،
سيدي السفير، لا نريد أن نكون أنداداً لكم كتفاً بكتف، نحن كما ذكرت لسنا سوى دولة صغيرة تبحث عن موضع قدم لها في العالم خاصة الناحية الاقتصادية، مرحباً بالصداقة السودانية الأمريكية، ومرحباً برؤوس الأموال الأمريكية شركاء لنا في تطوير خيارات بلادنا، ومرحباً بعلاقة ودية وطبيعية مع الشعب الأمريكي العظيم، ثم أن الحديث عن الجيش والعسكر أو العمل السياسي يا سيادة السفير الموقر، الجيش السوداني بكل وحداته وعبر تاريخه الطويل كان وسوف يظل جيشاً وطنياً يخدم أهدافه الأساسية في الدفاع عن حياد الوطن ولم يسع الجيش من تلقاء نفسه في أي مرحلة من تدخله في العمل السياسي إلا بدعوة من الأحزاب السياسية عندما يهزم بعضهم البعض يطلبون منه التدخل لاستلام السلطة .
حدث هذا في عهد السيد المحترم الفريق إبراهيم عبود، والذي طلب منه رئيس وزراء السودان آنذاك الأميرلاي عبدالله بيك خليل، الأمين العام لحزب الأمة –حينها- أن يستلم السلطة تفادياً لحدوث صدام بين جماهير حزبه وجماهير حزب المعارضة، لأن حكومته كانت مهدَّدة بالسقوط، وفي 1969م، جاء الحزب الشيوعي بمساعدة العقيد جعفر نميري، آنذاك وعدد من الضباط بالانقلاب الثاني نكاية لطرد نوابه من البرلمانن وكرَّر الإسلاميون نفس الخطأ الذي ارتكبه الشيوعيون واستولوا على السلطة بمساعدة الجيش في 89.
إذن الجيش السوداني سيدي السفير، كما عهدناه، هو حامي الديموقراطية في كل الحقب والرئيس عبود والمشير سوار الذهب -عليهما الرحمة- أكبر دليل على ذلك، وهو المؤسسة الوطنية التي تجمع كل أبناء السودان بقبائلهم وجهاتهم المختلفة.
سيدي السفير الموقر أنا أتعجب من إصراركم على بعد الجيش عن العمل السياسي، وأمامي تاريخ دولتكم والتي سلَّمت الجنرال ايزنهاور رئاسة الجمهورية بعد الحرب العالمية الثانية وبعد حرب العراق تسلَّم الجنرال كولن بأول منصب وزير الخارجية .
وفي فرنسا تسلَّم الجنرال شار ديغول، رئاسة الجمهورية الفرنسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى في كثير من الدول التي حولنا انقلبت قيادات عسكرية على حكام منتخبون بواسطة شعوبهم، ولأنهم يمثلون مصالحكم فانحزتم لمصالحكم على حساب مبادئكم كما قالت السيدة المحترمة هيلاري كلنتون، ولقد اعترفت من قبل السيدة كندوليزارايس، وزيرة خارجية دولتكم الموقرة -سابقاً- بأنها هي التي عملت على فصل جنوب السودان، وعندما انفصل جنوب السودان مع الأسف وذهب عن الدولة الأم اشتعلت فيه الحرب الأهلية القبلية وهذا هو ديدن كل الدول الأفريقية ومشاكلها الحقيقية في الانتماءات القبلية والجهوية حتى قال رئيسكم المحترم بايدن، عندما كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما، يبدو أننا عملنا على إنشاء دولة فاشلة، هذه أقوالكم ولم أدعيها.
كذلك سيدي السفير المحترم إذا أردت من الشعب السوداني أن يرحَّب بكم ويسعى لعلاقة قوية ومفيدة مع دولتكم العظمى نرجو عدم السماح لأي جهة بالتدخل في الشأن السوداني الداخلي إلا بالنصح والإرشاد والمساعدة في إقامة الانتخابات والوقوف على قدم المساواة بين القوى السياسية الموجودة في الساحة السياسية.
وفي الختام أتمنى لكم إقامة طيبة في بلادنا الطيبة المضيافة، وآمل أن تجد رسالتي هذه وبكل هذه الصراحة صدًى طيباً في نفسكم ومرة أخرى أكرر ترحيبي الحار بقدومكم لبلادنا ودمتم .
صلاح الدين عبدالله علي
مواطن سوداني أغبش
بلغ الثمانين من عمره .