لم يكن إلا لقاءً وافترقنا
بينما كانت تشير الساعة إلى الثامنة والنصف، كان (عباس) يحاول الهروب من مصير قاتم.. على ذات المواقيت انخرطت أيدي الرجرجة والدهماء في العبث بمحتويات بيت (عوض الجاز) بينما الخرطوم حينها تُحاول تمييز الأصوات وافتكاك شفرة التخليق ما بين فرث ودم.. وهوناً ما وتقاسمتنا الحيرة والاشتباه في المصير الذي ننساق إليه، وبدا أن أيما طريق هو بمثابة خطوة نحو الظلام.. الذين أرادوا الخروج اكتشفوا أن الآخرين هم من أعدوا عُدّته وهندسته وأن ما لقيصر هو نفسه ما لله, تداخلت الخطوب وتراجعت فكرة الثورة، لأن عدوها لم يعُد مُحدداً فيزيائياً بحيث تتلاقى في كراهيته الحشود والقلوب.
أهل نظام البشير ـ الذي أسقط نفسه في غباء تاريخي ـ وجدوا أنفسهم بغتة أمام طريق واحد لا ثاني له، وهو عداوة قوى الحرية والتغيير والالتجاء إلى المجلس العسكري ليعاودوا مرة أخرى وضع كل البيض في سلة واحدة وبلا أي أوراق أخرى للضغط والمراوغة. ويبدو أن هذا الاتجاه على عِلاته هو من سيُروّج لاستكمال بقية المشهد الانتقالي, فقد تركتهم أيدي المنون عالة يتكفّفون الناس بعد أن صنعوا مجدهم وصاغوا حيواتهم وِفق ما تهوى حركتهم وقدّموا يوم أن كانوا ذواتهم للدنيا والناس ما يشفع اختيارهم وتقديمهم قادةً لا قواداً.
وحتى الذين قفزوا باكراً من سفينة الإنقاذ لم تُتح لها قوى الثورة الجديدة أي فرصة للتفكير في الاصطفاف معها لصياغة المراحل القادمة، وبدا واضحاً أن النية (الزاملة) لأي تفاوض هي الرغبة المستعِرة في الاستبعاد والإقصاء، فتحبس الخرطوم أنفاسها خاصة وأن تلك النوايا تعتمل بمشاعر غابيّة متوحشة لا تدركها المعالجات ولا يداويها الحوار, فيحصُل الفض ويتواصل التصعيد، وتتراجع الطفولة السياسية أمام الوعي الجمعي, حتى إذا ما خرجت المفاوضات إلى الاتفاق عادت المشاعر السالبة (ومن ويين يوجعك)، فانطلقت القوائم السوداء بأسماء عناصر النظام السابق ومناصريه تهديداً ووعيداً تشفّياً ومغايظة وكأنما هذا هو المطلوب في عهدنا القادم الجديد!!
الجِدّة التي يتمنّاها الناس هي أن نمنح مستقبلنا قسطاساً مستقيماً نتحاكم إليه عن وعي وبينة ورقابة فاعِلة فلا يُجرِمنا شنآن قوم ألا نبسط بلادنا أرضاً صالحة للاستعمال الآدمي حيث لا تزر فيها وازرة وزر أخرى ولنتراضى بعد أن تهيّأ لنا كل هذا الغطاء والرضا السياسي على توصيف الجريمة وملاحقة مرتكبيها دون النظر إلي “جهته” و”جهويته” ولنبدأ أولاً بإخراج كل معتقل بلا جريمة، وتوصيف أن كل فساد جريمة.. وما حدث في جامعة الخرطوم جريمة.. وصالة قرطبة جريمة, حتى إذا ما فرغنا من كل ذلك عُدنا لنجِد أن للصفوف تمايُزاً آخر هو لصالح البلاد والعباد وإلا فلنا التأسِّي (ثم ودّعنا الأماني وأفقنا) أو القبر.