أغلق السيد رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الباب تماماً حول احتمالات وجود أي شخصيات حزبية أو حدوث مُحاصصة في تشكيل حكومة الفترة الانتقالية التي اتُّفِق أن تكون من كفاءات وطنية مستقلة، وقال في لقائه التلفزيوني مع قناة “النيل الأزرق”، إن المجلس السيادي سيكون له (فيتو) في مَن يتم ترشيحُه للحكومة، وهذا الاتجاه هو الضمانة الحقيقية من أي انحرافات يُمكن أن تُرتَكب من أحد طرفي الاتفاق بإدخال عناصر وكوادر حزبية في حكومة الفترة الانتقالية ذات المهام المُحدّدة، لأن ذلك إن حدَث سيكون مدعاةً للتخبُّط السياسي وإظهار الأجندات السياسية وزيادة الاحتقان وجر البلاد إلى الوراء عندما تتغلّب الاصطفافات والولاءات الحزبية على أي انتماء آخر .
وهذا الاتجاه الجيد الوارِد في حديث رئيس المجلس العسكري، ومن قبل صرح نائبُه الفريق أول محمد حمدان بذات القول عدة مرات، سيتعزّز منهجٌ واضحٌ وحاسمٌ في التعامُل مع المرحلة الانتقالية والاتفاق الذي لابد أن يكون شاملاً ولا يُقصي أحداً، وقد يقول قائل إن حكومة الكفاءات المستقلة ليس فيها تطابُق مائة بالمائة مع مدلولِها ومعناها، ولا يوجَد شخصٌ أو كفاءة سودانية ليس لديها موقف سياسي أو فِكري أو اتجاه، ويصعُب الحصول على حياد كامل، قد يكون هذا صحيحاً لكنه ليس مطلقاً، فالكفاءة الوطنية المستقلة المقصود بها الالتزام القاطِع لدى الذي يتولى الوظيفة العامة في حكومة الفترة الانتقالية أن يكون نزيهاً وشفّافاً ويقف على مسافة واحدةٍ من الجميع ويراعي معايير وضوابط حازِمة تُثبِت حيادَه وعملَه من أجل الصالح العام بلا تحيُّز أو محاباة أو خدمة طرف من الأطراف ومحاباته والانحياز له، فضلاً عن توفّر التميُّز المِهَني والفني في أدائه وتخصُّصِه الذي أتى به للوظيفة العامة والوزارة.
إذا ما تمَّ التقيُّد ومُراعاة قِيم الكفاءة والنزاهة والحياد والاستقلال من أي طرف سياسي، ستكون حكومة الفترة الانتقالية حكومة تُشرّف البلاد، وستقود العمل التنفيذي إلى ما نصبو إليه جميعاً، وهناك مهامٌ جسامٌ تنتظر الحكومة المُقبِلة وملفات شائكة وقضايا متداخِلة وعقبات كأداء لابد من حكومة ذات كفاءة عالية وتجرّد من أي انتماء سياسي حتى تتصدى لهذه المهمة، وهي مهمة بناء ومُحاولة إنهاض البلاد من كبوتها، بتحريك الاقتصاد الوطني حتى ينتعِش، والخدمات حتى تكتمِل، وحفز الطاقات حتى تنتج، وبعث الأمل حتى يُشرِق في نفوس السودانيين.
سيواجه طرفا الاتفاق تحدّياً كبيراً وهُما يشرعان في تأليف الحكومة وتشكيلِها، فكثيرٌ من أعضاء الحرية والتغيير لا يستطيعون تجاوُز شح النفس ومراراتهم الخاصة، سيُصرّون على مُداراة رغباتهم والإتيان بترشيحات تُلبّي الرغبة الانتقامية داخلهم والعَجَلة التي تتملّكهم لإفراغ الشُّحنة السالبة الكامنة في دواخلهم، وسيسعون إلى تعيينات لتنفيذ برنامجهم الداعي إلى تصفية الخدمة المدنية بدعوى إصلاحها والانتقام من خصومهم السياسيين، ثم تنفيذ محاولاتهم الرامية لسن قوانين تستهدِف مؤسسات نظامية وغير نظامية داخل الدولة.
هذه الروحُ التي تتملّك قوى إعلان الحرية والتغيير، هي التي قَصَد المجلسُ العسكري أن يجعل هبوطها ناعماً على مدرج الاتفاق، ثم التخلّص منها قبل تشكيل الحكومة، وجعل الأبواب موصدة أمام تمدّدها، فلو تُرِك الحبلُ على الغارب في مسألة تشكيل الحكومة للرغبات الجامِحة لدى النشطاء السياسيين والمواعين الحزبية الطافحة بالأحقاد، ستحِلُّ بالبلاد المُواجهات وتصفية الحسابات، وتتخلى الحكومة الانتقالية من أهم مهامها، وهي خدمة الشعب والتفرّغ لتنفيذ الأجندة الحزبية، لذلك اقتضت الحِكمة السياسية أن يصر المجلس العسكري على حكومة الكفاءات الوطنية المستقلة، وتحديد معايير لها، والاحتفاظ بحق النقض (الفيتو) على كل من يتم ترشيحه لتولي منصب فيها.
لابد من الاتفاق إذن بين شريكي الحكم على أن تسبِق أي تعيينات عمليات فحص أمني سياسي وجنائي، ويخضع فيها كل المُرّشحين من رئيس الوزراء وأعضاء المجلس السيادي لعمليات الجرح والتعديل حتى يتم اختيار أفضل الكفاءات السودانية المشهود لها بالخبرة والنجاعة والنزاهة والحياد، ولتكُن الفترةُ الانتقالية سانحةً لتنقية النفوس من غلواء المرارات والأحقاد والإحَن والأغبان والتوجُّه نحو سودانٍ معافىً وسالِم الوجدان والجنان..