داير أكتب.. في النوافذ .. اسمي.. تاريخي .. وحكاوي الرحلة ..في الزمن المعاصر (1)
كتب: سراج الدين مصطفى 3 سبتمبر2022م
البطاقة الشخصية : يابلد .. اسمعينى وهاك كل البيعة كاملة.. اسمى هاشم أمي آمنة .. أبوى ميِّت وكان خضرجي.. ومرة صاحب قهوة في ركن الوزارة
هاشم صديق، شاعر يملك مفرداته الخاصة ويتباهى بقدرته على اصطياد اللا مألوف من المعاني والموضوعات
شاعر يكتب للناس بحبر يعتصره من دمه
أجدها عصيِّة على التعبير والانطلاق والطلاقة، عاجزة لا تقوى على استحداث مفردة جديدة توازي مكانته عندي شخصياً أو عند الشعب السوداني..هكذا هي لغتي .. أحياناً تخونني مع عاشقها حتى الفجر .. تساهر بجانبه .. وتصحى بجانبي ..تتسلل مني وتهرب وتعيش حالة من العجز الكبير أمام الإنسان الذي قال:
يابلد
اسمعيني وهاك كل البيعة كاملة
اسمى هاشم أمي آمنة
أبوي ميت وكان خضرجي
ومرة صاحب قهوة في ركن الوزارة
بيتنا طين واقع مشرَّم ولما حال الطين يحنن
نشقى شان يلقى الزبالة
هاشم صديق، شاعر الشعب الذي ظل مهموماً بهذا الوطن في حله وترحاله. عانى ما عاني التعب والرهق ومصادرة الحقوق حتى البسيط منها، ولكن رغم كل ذلك ظلت حروفه تنبض وتعيش رغم مصادرتها ومنعها من الناس، فهو شاعر يكتب للناس بحبر يعتصره من دمه، لذلك من البديهي أن يصاب (بضيق الشرايين)، ولكنها رغم ضيقها والتضييق عليها غالبها وهو يقول:
مرقت أكوس على نفسي
بعد (ضاقت)
شرايين قلبي
و(انسدت)
و(راجين مبضع الجراح)
تقول ما كفاية
ضيق الدنيا يا قلبي
ولا عمراً جراح مشتيو
تقول ما شلت جرح الناس
وما كاتلت
شان الصباح
يتباهى بقدرته على اصطياد اللا مألوف من المعاني
هاشم صديق بشاعريته الدافقة كان ملهماً للعديدين من الكتاب، حتى أن كاتب بقامة يحيى فضل الله، سكب بعض رحيق حروفه عنه وقال إنه الشاعر هاشم صديق ذلك الذي حين انحدرت القصيدة الغنائية في السبعينات إلى حضيض الخيبة العاطفية، كان يصطاد كلماته تلك ويفتح بها مناطق غير مأهولة، يتحسس بأنامل عاطفته الشعرية تلك الأبواب والنوافذ التي تطل على ذلك الغناء العذب، تلك العذوبة التي لا تفتأ تحقق وجودها من خلال ذلك الانسجام بين المبنى والمعنى في القصيدة، إنه هاشم صديق، يملك مفرداته الخاصة ويتباهى بقدرته على اصطياد اللا مألوف من المعاني و الموضوعات لا لسبب سوى أنه ينتمي إلى تلك الطاقة السحرية (الدراما)، إنه شاعر حاولت أن تسلك دروبه تلك الوعرة الكثير من محاولات الشعراء الشباب فهو لا يملك إلا أن يكون الأب الحنون لمدرسة شعرية تمايزت في أنها تذوب الحبيبة في ملامح الوطن، تستدعي تفاصيل العشق ملتحمة مع تفاصيل الشوارع والدروب الصغيرة والحقول والمدن والأرياف، إنها تلك القصيدة التي تتحمَّل عبء التأويل المفتوح .
حالة شعرية ذات خصوصية
هاشم صديق يستطيع أن يدهشك ويستوقفك ويأخذك في حالة من التأمل العميق، فهو حالة شعرية ذات خصوصية، ومفرداته الكتابية في حالة اشتعال دائم لا تعرف السكون، وقدراته الكتابية مشحونة بالصدق لا تعرف الخيال فهي تلامس الواقع اليومي والحياتي، والقصيدة عند هاشم صديق تأخذ شكل (العرضحال) تشرح القضايا وتغوص في جذورها وعمقها، لذلك من البديهي أن يتبوأ هذه المكانة الرفيعة في وجدان الناس، حتى أصبح رمزاً للشعب الذي أطلق عليه لقب (شاعر الشعب) لأنه الأقدر على تلمُّس الأوجاع وإحالتها لمفردة شعرية بها الكثير من الاحتشاد بالواقعية ويتجلى ذلك حينما يحكي في قصيدته الغلابة التي أصبحت منشوراً تستلف لسان المساكين:
مسكين أنا… ومسكين أبوي
وأمي… وبرضو أختي
وكمان أخوي
لكن ورغمك ياشقا
برضو شاكرين ذي بلد
الليل سرح فيها ومشى
وسام عيونها وحنسا
ولا اتبدلت لا استسلمت
صراع دائم مع الظلام
وهكذا هاشم صديق في صراع دائم مع الظلام يشعل شمعة ويحملها برغم ضراوة الريح والأعاصير، وهو يستمد قدرته على ذلك من عدة تكوينات وصراعات ومعاناة عاشها في ظل الأنظمة المتعاقبة، والتي ظل هاشم صديق في حالة حراك وعراك دائم معها بحثاً عن وطن جميل بلا قيود أو تقييد .
الاقتراب من عوالم هاشم صديق
الاقتراب من هاشم صديق، يعني الدخول إلى عوالم جديدة ومختلفة، فهو شاعر وسيم المفردة وعميق العبارة يتكئ على قاعدة ثقافية ضخمة أتاحت له معاينة المشهد الفني والثقافي بعدة زوايا، لأنه في الأصل مبدع متعدد المشارب ومختلف الألوان، فمن البديهي أن يتربع وجدان الشعب السوداني لأنه خرج من رحم المعاناة، وذلك يتضح أكثر في مخطوطته جواب مسجل للبلد التي أعلن فيها البيعة كاملة غير منقوصة، ولكنه مازال يدفع ثمن تلك البيعة من صحته وراحته، حتى انزوى في ركن قصي بمنزله بحي بانت الأم درماني العريق يسامر غرف المنزل وشبابيكه التي يفتحها مشرعة للشمس للدخول في دواخله النقية والصافية التي تشابه تماماً حال (طفلة بتحفظ في كتاب الدين).