السودان ينجب ومصر تحتضن .. مئات السودانيين يدخلون مصر يومياً.. ما الأسباب؟
الخرطوم: انتصار فضل الله 28 اغسطس 2022م
يصطف بشكل منتظم من الأحد حتى الأربعاء، أعداد ضخمة من السودانيين أمام البوابة الشرقية للقنصلية المصرية في مساحة تضيق بهم، بينما يتحلَّق آخرون في أماكن قريبة في انتظار أدوارهم حتى يتقدَّمون بأوراقهم بغية السفر إلى مصر.
لكل سوداني أو سودانية قرَّر السفر إلى مصر أسباب ودوافع. وقفت (الصيحة) من خلال استطلاع مطوَّل نتعرَّض له في هذه المساحة.
فرصة من ذهب
سهام كريم، في العقد الرابع من العمر تعمل موظفة، أصيبت والدتها بداء “السرطان” في” القولون منذ حوالي العام، يئست من علاج الأطباء السودانيين المحليين، فتقرَّر لوالدتها الذهاب إلى مصر بغرض العلاج.
قالت لـ(الصيحة)، بحمد الله تكللت العملية بالنجاح بعد استئصال الجزء المصاب بالخلايا السرطانية من جسد والدتها، مكثت في القاهرة مدة ثلاثة أشهر، تعرَّفت خلالها على سيدات سودانيات وأخريات مصريات يعملن في مجالات مختلفة.
تضيف: التمست جمال المنطقة وحب الشعب المصري لبلادهم كما وجدت الحياة ممكنة بأقل التكاليف والعلاج مضمون. بعد سعي وجهود عثرت على وظيفة براتب معقول في إحدى شركات السياحة بواسطة جارتها وهي سودانية، فرأت ضرورة توفيق أوضاعها في السودان ثم العودة للإقامة في مصر برفقة والدتها التي اقترب موعد مراجعة صحتها.
فرص تعليم آمنة
وهذا الباهي حامد، شاب في مقتبل العمر ينشد تعليماً مستقراً وآمناً، ترك الدراسة في جامعة النيلين كلية القانون منذ عامين، فلم تعد لديه الرغبة في العيش في السودان في ظل الأوضاع المرتبكة وغير المفهومة، بل و”الملخبطة” – على حد تعبيره .
سبق الباهي إلى مصر بعض أقاربه وأصدقائه الذين نقلوا له صورة ممتازة عن التعليم في مصر، بعد مشاورات تمكَّن من إقناع أسرته ببيع كل ممتلكاتهم، وبمعاونة الأصدقاء حصلوا على شقة تمليك هناك، وحالياً تعد الأسر اللحظات الأخيرة في السودان استعداداً لاستقبال حياة أخرى جديدة ينعمون فيها بالراحة والأمان.
شقيقة الباهي الأصغر، عبَّرت عن سعادتها للمغادرة الدولة التي لم يحدث وأن عاشت فيها برضا تام، قالت المعاناة كبيرة والوضع صعب وأكثر ما راق لها وجعلها تساعد شقيقها الرأي انخفاض تكلفة المواصلات، فهذا وحدة أمر مشجِّع.
البلد طردتنا
” البلد دي ما بتنقعد بعد دا والله العظيم أبتنا عديل طردتنا” بهذه العبارة ابتدر الشاب عماد كمال الدين، حديثه مع (الصيحة)، موضحاً أنه يأمل في العبور إلى دولة أخرى رفض تسميتها عن طريق مصر، لكنه لا يرغب العيش في مصر فترة طويلة، وحال عجز سيأتي لمشاركة أهله في السودان المعاناة ويقاتل معهم لأجل الحياة الكريمة.
أما الخالة نعمات الزين، فهي تمارس التجارة منذ ثلاث سنوات، تقوم بإحضار ملابس الأطفال والأواني المنزلية من مصر والتصرُّف فيها في السودان.
أفادت (الصيحة)، أنها تسافر لسببين الأول التجارة والثاني عمل مراجعة لصحتها بواسطة أطباء أكفاء ومتطوِّرين.
مطلوبات أخرى
ياسر خليفة، صاحب معرض “للأحذية وملابس الجينز الرجالية” في السوق العربي، قال لـ(الصيحة)، أول دوافع سفره لمصر لجلب البضاعة، ثانياً متابعة إجراءات مشروع سياحي مع أشقائه في مصر. وكيل مطلوبات أخرى فضَّل عدم الإفصاح عنها، لكنه أكد أنه ينوي الانتقال إلى هناك بشكل نهائي بعد تصفية أعماله في السودان.
وقال ياسر، بداخل كل سوداني أو سودانية رغبة في الهجرة غير أن الفرص لم تتح بعد، ويخشى أن تزداد الأوضاع سوءاً فيزداد معها حجم الهجرات إلى الخارج، قاطعاً بأن مصر أصبحت وجهة كل السودانيين.
العشرات هنا
تجاذبت (الصيحة) الحديث مع أحد أفراد الأمن المنظِّمين للوجود السوداني أمام القنصلية المصرية بالخرطوم قبالة مقر لجنة إزالة تمكين (30) من يونيو، في شارع الجمهورية، فأخبرني بأن العشرات يأتون يومياً من قبل صلاة الصبح ويشهد المكان على معاناة يردِّدونها خلال الحديث المتبادل فيما بينهم .
موضحاً أن مهمتهم كأفراد أمن تأمين وتنظيم الحضور لكنهم بأتوا معلمين بأسباب السفر، متمنياً أن تتحسَّن الأوضاع بالداخل حتى تحتضن البلاد من بالخارج.
من الرابح؟
أشار مختص في العمل والقوى العاملة خلال حديثه لـ(الصيحة) إلى وجود علاقة وجدانية تاريخية تلعب دوراً مؤثراً بسبب محبة يكنها كثير من السودانيين لمصر، هذه العلاقة على مر التاريخ كانت مكسباً وقيمة إضافية حقيقية وقيمة اجتماعية وثقافية لمصر، وفي كثير من الحالات خصماً على السودان.
ويضيف، الأن يقدِّر الخبراء عدد السودانيين الموجودين مقيمين أو عابرين بين خمس إلى ثماني ملايين نسمة، ولا شك أن المصروف الاستهلاكي لهؤلاء الملايين أصبح مورداً مهماً لمصر.
ووفقاً لحديث المختص سعد الدين محمد، يقدِّر الخبراء استثمارات وأصول السودانيين بمصر ما يفوق الـ(١٠٠) مليار دولار، إضافة إلى حجم السيولة لدى المصارف المصرية التي تخص السودانيين حوالي عشرة مليار دولار.
استقطاب ممنهج
يوضح المختص في العمل والقوى العاملة سعد الدين، أن مصر وبسبب سياساتها استطاعت أن تستقطب موارد السودانيين بشتى الطرق، في الوقت نفسه يعيش السودان وضعاً مأزوماً، سياسياً واقتصادياً على مدى عقود بسبب النظم السياسية العسكرية الشمولية وسياسات تخبط اقتصادي جعلت البلاد طاردة للشعب و للاستثمارات الأجنبية والمحلية معاً.
يسترسل، رغم توفر كل الموارد الطبيعية اليوم نرى كثيراً من رجال الأعمال والمستثمرين السودانيين المعروفين ينقلون كثير من أنشطتهم الاقتصادية إلى مصر، وكثير منهم يديرون أعمالهم من هناك عبر الـ (اون لاين).
وأشار إلى أن هناك آلاف السودانيين الذين يمتلكون الشقق في مصر وخاصة في مناطق الدرجة الأولى.
بكاء في الزمن الضائع
وحتى لا نبكي على اللبن المسكوب، يرى سعد الدين، ضرورة الاعتراف بالأسباب والحقائق التي يجب أن نتحمَّل مسؤوليتها نحن كشعب سوداني أولاً، رغم عدم التغافل عن دور دول الإقليم وعلى رأسها مصر تاريخياً وآنياً في عدم الاستقرار السياسي والأمني في السودان بسبب تدخل العسكر في السياسة والانقلابات.
يقول: هذا أدى إلى عدم وجود سياسية اقتصادية واضحة مستقرة في السودان مع السيولة الأمنية، وتعثر المؤسسات المصرفية وانهيار العملة الوطنية والتضخُّم، قاطعاً بأن هذه المسألة أدت إلى هجرة كثير من الأسر والشباب إلى مصر للاستقرار ولعيش حياة كريمة فيها متطلباتهم الضرورية في متناول اليد من مأكل وَمشرب وتعليم وصحة وبأسعار مناسبة.
سياسات جاذبة
فضل سعد الدين: الحديث عن سياسات مصر الجاذبة للسودانيين بالإشارة إلى أنها تمنح الطالب السوداني فرصة دراسة جامعية في الكليات العلمية بقيمة (١٠٪) من قيمة الرسوم المفروضة والمقرَّرة على الأجانب.
فضلاً عن تكلفة العلاج في مصر في أرقى المشافي لا يتعدى الـ(٥٪) من قيمة العلاج لأي مواطن سوداني في أي مشفى في السودان، فضلاً عن توفير الرعاية الصحية المجانية في كثير من الحالات مع توفر الأدوية.
مصدر الإعاشة
يبقى السؤال من أين يتحصَّل السوداني المقيم في مصر على مصدر موارده؟ يقول سعد الدين، يتحصَّل السوداني المقيم بمصر موارد دخله من خلال استثمارات أموالهم في مصر في المصارف والشقق المفروشة التي يملكها بتأجيرها ومن خلال عوائد مواردهم الاقتصادية في السودان مشاريع إنتاجية زراعية وحيوانية.
بيوت مؤجرة
وجزء منهم من خلال رواتبهم وأجورهم التي يتقاضونها هناك فيتم تحويلها إلى أسرهم، إضافة إلى موارد أبنائهم في دول الاغتراب في دول الخليج أو دول اللجوء في أوروبا وأمريكا وأستراليا.
حجم وجود السودانيين في تلك الدول
بالملايين.
يؤكد سعد الدين، أن كل ذلك يلعب دوراً رئيساً في استفادة مصر اقتصادياً من وجود هذا العدد الضخم فيها من السودانيين المشهورين بالاستهلاك وهذا أمر جيِّد لمصر.
سهولة الدخول
أشار سعد الدين، إلى أن دخول السوداني إلى مصر سهل جداً وبكل الطرق الشرعية وغير الشرعية، حيث أصبحت معبِّراً للسودان الحالم بالهجرة الغير شرعية عبر قوارب الموت أو عبر السياج الإسرائيلي أو الباحث عن اللجوء إلى دول الغرب أو أستراليا أو منح التأشيرات من السفارات في مصر.
يؤكد أن كل ذلك أدى ويؤدي إلى نزوح السودانيين إلى مصر، حيث أن
الأعداد التي تسافر إلى مصر يومياً لا يعود منهم غير (٤٠٪) ليبقى الـ (٦٠٪) هناك.
يواصل سعد الدين، كل ذلك يشكِّل معضلة حقيقية بالتالي تحتاج إلى جهود وعودة دولة السودان المختطفة من الأنظمة الشمولية لتنعم باستقرار سياسي وأمني وتحوُّل ديموقراطي.
توفير البيئة المناسبة
يتفق المحلِّل الاقتصادي د. حيدر حسين، مع حديث سعد الدين، مشدِّداً على ضرورة توفير بيئة مشجعة للاستثمار وإقامة دولة المواطنة وأمن وسلام وتوفير الصحة للمواطن، وكذلك التعليم المجاني، لأن هذه الخدمات هي من الحقوق والضروريات والحفظ على موارد البلد التي تذهب للخارج عبر العلاج أو التعليم.
يقول د.حيدر، إن ما يدفعه المواطن السوداني للعلاج والتعليم في مصر لا يتعدى الـ(١٠٪) من قيمة المبالغ التي يدفعها المواطن داخل السودان لأي مشفى خاص أو جامعة خاصة .
يواصل، هذا فضلاً عن الفرق الشاسع في الخدمات التي تقدَّم للمريض أو لاستقرار التعليم وجودة المنهج ووجود المختبرات والمعينات التعليمية التي تنعدم بالسودان، فرسوم سنة واحدة في جامعة سودانية تكفي الطالب السوداني لقضاء كل سنوات الكلية وتكفيه لحياته المعيشية والسكن بمصر.
ويتفق المتحدثون في هذه المساحة، على أن السودان في حاجة للخروج من هذا المأزق حتى يتعافى، وقالوا: إن الحديث حول العلاقة السودانية المصرية الاقتصادية هذا ملف خطير فيه المسكوت عنه أكثر من الظاهر وهذا أمر آخر.