21 اغسطس 2022م
يشهد الدولار الأمريكي موجة صعود، إذ ارتفع سعره نحو 11% منذ بداية العام، ووصل -للمرة الأولى في عقدين- إلى مستوى التعادل مع اليورو.
وفي الواقع، انخفضت أسعار عدد هائل من العملات مقابل الدولار، مُخلِّفةً آثاراً وتداعياتٍ كبيرة على بلدان العالم النامية. وبالنظر إلى العدد الكبير من العناوين في هذا الصدد، أردتُ بيان بعض الآثار الرئيسية لصعود الدولار على بلدان الأسواق الصاعدة.
أولاً، ما السبب في ارتفاع قيمة الدولار؟
السبب الرئيسي لارتفاع قيمة الدولار هو قوة الطلب على الدولارات. وتشير تقارير الآفاق الاقتصادية لمعظم البلدان إلى اتجاهها نحو تراجع شديد للنمو. وفي الوقت نفسه، خلقت الحرب في أوكرانيا مخاطر جيوسياسية وتقلبات في الأسواق.
علاوةً على ذلك، دفع التضخم الذي بلغ مستويات تاريخية مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) إلى إجراء زيادات كبيرة لأسعار الفائدة.
تدفع هذه العوامل ضمن جملة أشياء أخرى إلى الجنوح نحو الاستثمارات الآمنة، حيث يتخارج المستثمرون من مراكزهم الاستثمارية في أوروبا والأسواق الصاعدة وأماكن أخرى ويبحثون عن ملاذ آمن في أدوات استثمارية مقومة بالدولار الأمريكي وهو ما يتطلب قطعاً شراء دولارات.
وهذه ظاهرة ليست جديدة. فقد تسبَّب غزو أوكرانيا في ارتفاعٍ أولي لقيمة الدولار الأمريكي مقابل عملات بلدان الأسواق الصاعدة كان أكبر من الزيادات في سعر الدولار الناجمة عن الاضطرابات التي صاحبت إعلان خطط التراجع عن التوسع النقدي في الولايات المتحدة عام 2013 ، والأحداث السابقة المرتبطة بالصراع في بلدان مصدرة للنفط.
ولا تزال الأسواق تتوقع زيادات سريعة لأسعار فائدة مجلس الاحتياطي الاتحادي. وفي أوضاع مماثلة، شهدت زيادات سريعة لأسعار الفائدة فيما مضى، واجهت بلدان الأسواق الصاعدة أزمات. وكان هذا هو الحال في ثمانينات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية، في أزمة “العِقد المفقود”، وفي التسعينات في أزمة “تاكيلا” المالية في المكسيك (التي امتدت إلى روسيا وشرق آسيا). إذا كنتَ مهتماً بمعرفة مخاطر الديون المصاحبة للركود التضخمي، يمكنك الاطلاع على أحدث مدونة صوتية للتنمية يبثها البنك الدولي.
مخاوف الديون
بناء على ما سبق، يمكنك توقع أن تشهد مزيدا من الإجهاد في مجال الديون السيادية الذي يمر بالفعل بوضع متأزم.
فبلدان كثيرة -لا سيما أشد البلدان فقرا- عاجزة عن الاقتراض بعملتها بالقدر أو آجال الاستحقاق التي تريدها. والمقرضون عازفون عن تحمُّل الخطر الذي ينطوي عليه سداد قروضهم بالعملات المتقلبة لهؤلاء المقترضين. وبدلاً من ذلك، تلجأ هذه البلدان في العادة إلى الاقتراض بالدولار، متعهدةً بسداد ديونها بالدولار، مهما كان سعر الصرف. وهكذا مع ارتفاع قيمة الدولار بالنسبة للعملات الأخرى، تزداد كثيرا تكلفة دفع أقساط الديون بالعملة المحلية. وهذا ما نُسمِّيه في مصطلحات الديْن العام “الخطيئة الأولى”.
فمن سيكون أفضل حالاً؟ إن نسبة الديون المقومة بالدولار الأمريكي منخفضة نسبيا لدى بلدان شرق آسيا، وسجَّلت البرازيل أداء جيدا في الأشهر الأخيرة. فقد استفادت الأخيرة من حيازات البنك المركزي الكبيرة من الدولارات، وحقيقة أن القطاع الخاص استطاع فيما يبدو أن يحمي نفسه جيدا من تقلبات العملات، وأنه مُصدِّر صافٍ للسلع الأولية.
هواجس النمو
حينما يرفع مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي أسعار الفائدة، تضطر البنوك المركزية للبلدان الأخرى إلى رفع أسعار فائدتها للحفاظ على قدرتها التنافسية والدفاع عن عملتها. بعبارة أخرى، يجب إعطاء المستثمرين سبباً (ارتفاع العوائد) حتى يستثمروا في بلدٍ من بلدان الأسواق الصاعدة بدلاً من استثمار أموالهم في أصول أمريكية أقل خطورة.
وينطوي هذا على معضلة. فمن ناحية، يريد البنك المركزي لأي بلد طبعا حماية الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد المحلي. ولكن من ناحية أخرى، زيادات أسعار الفائدة ترفع تكلفة الاقتراض المحلي، ويكون لها تأثير مُثبِّط للنمو أيضا.
وأوردت صحيفة فاينانشال تايمز نقلا عن بيانات لمعهد التمويل الدولي في الآونة الأخيرة أن “المستثمرين الأجانب سحبوا أموالاً من الأسواق الصاعدة لمدة خمسة أشهر متتالية في أطول موجة سحب للاستثمارات على الإطلاق.” وهذه استثمارات حيوية تتخارج من الأسواق الصاعدة بحثا عن ملاذ آمن.
وأخيرا، سيضر تباطؤ نمو الاقتصاد المحلي بمرور الوقت بالإيرادات الحكومية، وقد يؤدي إلى تفاقم مشكلات الديون المذكورة آنفاَ.
المشكلات التجارية
في الأمد القصير، قد يؤثِّر صعود الدولار أيضا على التجارة. فالدولار الأمريكي يُهيمن على المعاملات الدولية. وتستخدمه الشركات العاملة في اقتصادات لا تتعامل بالدولار في التسعير وتسوية معاملاتها. ولتنظروا على سبيل المثال إلى سلع أولية أساسية مثل النفط تباع وتشترى بالدولار.
علاوةً على ذلك، هناك اقتصادات نامية كثيرة تتأثر بالأسعار ولا تؤثر فيها (سياساتها وإجراءاتها لا تؤثِّر على الأسواق العالمية)، وتعتمد اعتمادا كبيرا على التجارة العالمية، ومن ثمَّ قد تكون لصعود الدولار آثار كبيرة عليها، محلياً، ومن ذلك زيادة معدلات التضخم.
ومع ارتفاع الدولار تزداد تكلفة الواردات (بالعملة المحلية)، وهكذا تضطر الشركات إلى تقليص استثماراتها أو زيادة الإنفاق على الواردات الحيوية.
وبالنسبة لبعض البلدان تبعث صورة التجارة على الأمد الطويل على قدر أكبر من التفاؤل لكنها بوجه عام صورة ذات ملامح متباينة. صحيح أن الواردات تصبح أكثر تكلفة عند صعود الدولار، لكن الصادرات تكون أرخص نسبيا بالنسبة للمشترين الأجانب. وقد يُمكِن للاقتصادات القائمة على التصدير الاستفادة، حيث تؤدي زيادة الصادرات إلى تعزيز نمو إجمالي الناتج المحلي واحتياطيات النقد الأجنبي، الأمر الذي يساعد على تخفيف كثير من المشكلات المُبيَّنة فيما يلي.
تخفيف الآلام
لسوء الحظ، ليس أمام البلدان خيارات تذكر لمعالجة هذه المشكلات في الأمد القصير. وهي مشكلات أفضل سبيل لمعالجتها هو التصرف بشكل استباقي وليس كرد فعل.
وللحيلولة دون وقوع الأزمة التالية، يجب على البلدان الآن أن تعزز أوضاع ماليتها العامة وأن تعتمد على الاقتراض المستدام. وحتى في الأوقات العصيبة، يمكن لواضعي السياسات إيجاد فرص للتشجيع على الاستثمار وتحفيز النمو الاقتصادي وفي الوقت ذاته تخفيف الضغوط على المالية العامة. ويجب على المجتمع الدولي من جانبه أن يبذل مزيدا من الجهد للتعجيل بإعادة هيكلة الديون. فالقيام بهذا العمل سيقطع شوطا طويلا في الطريق إلى إعادة البلدان إلى مسار أكثر استدامة للمالية العامة.
* المدير العام لقطاع الممارسات العالمية للاقتصاد الكلي والتجارة والاستثمار بالبنك الدولي