اتفاقُ ساعات الفجر هل يُبدِّد ظلامَ الخلاف؟
اتفاق الضرورة وأسئلة الشارع...
(مهام المجلس السيادي ومعايير اختيار الوزراء وبقية مستويات تفاصيل تنتظر الحسم) .
(أطراف من مكونات الحرية والتغيير تتكتم على ملاحظاتها ورفضها للاتفاق).
(لا تزال هناك أسئلة حائرة ومواقف غير واضحة لفّها وشاح الاتفاق)
أقل ما يوصف به الاتفاق المُبرم في إطاره العام، أنه اتفاق الضرورة بالنسبة لطرفيه، ولم ترِد حتى الآن تفاصيل متفق عليها أو نص مكتوب يُفهّم من مَتنه وحواشيه ما الذي تم الاتفاق عليه وسياقات تنفيذه، لكن في مجمله هو اتفاق الحد الأدني المقبول، والمُمكن المعقول، إذا استكان شيطان تفاصيله، ولم يخرُج من قُمقمه ليُعيد الخلافات مرة أخرى حول ما ينبغي تطبيقه، ويبدو كذلك أن طريقة الإعلان عن الاتفاق في ساعات الفجر ليوم أمس الجمعة أن الطريق كان عسيراً خلال اليوم الأول، ثم صار الاتفاق سريعاً ومفاجئاً كالنازِل جرياً من قمة جبل..
على عكس التوقعات أُعِيد بشكلٍ ما إنتاج بعض تفاصيل الاتفاق السابق الذي إُلغي، وأدخلت الوساطة الأثيوبية والأفريقية يديها وخرج مقترح المجلس السيادي دون أن يُذكر رسمياً تركيبته ونسب تكوينه، وأعلن من منصة التصريحات فقط دورية رئاسته التي سيكون للمجلس العسكري سنتان تقريباً وبقية الفترة المتبقية وهي عام واحد للشريك المدني، أما الحكومة فهي مُتّفق عليها من قبل ومنذ بيان المجلس العسكري الأول، فهي حكومة كفاءات مستقلة على رأسها شخصية مدنية مشهود لها بالكفاءة والحياد، غير أن الإعلان عن الاتفاق أمس سكَت عن أية تفاصيل أخرى تتعلق بكيفية توافُق الشريكين حول تشكيل الحكومة، هل هي مقترحات تقدّمها الحرية والتغيير للمجلس لإجازتها والموافقة عليها، أم هناك صيغ أخرى؟ بالنسبة للمجلس التشريعي الانتقالي، فقد تم إرجاء البت فيه، وواضح أن الخلافات حوله كانت ستعصِف بالاتفاق من أساسه، ولذا أُبعِد التداوُل حوله في فرص لاحقة تتهيأ فيها بيئة سياسية أفضل، والراجح هو الاستغناء عنه تماماً كما حدث في الفترة الانتقالية عقب انتفاضة أبريل 1985م، أما لجنة التحقيق في أعمال القتل، فهو موضوع لا خلاف عليه ولا ينبغي أن يكون حجر عثرة.
بالطبع ستتبع عملية الإعلان عن الاتفاق، اجتماعات أكثر تعقيداً حول صلاحيات المجلس السيادي وكيفية عمله وسلطاته، ومعايير اختيار وزراء الحكومة ومهمتها الانتقالية، وترتيبات بقية مستويات الحكم الولائي والمحلي ومؤسسات الدولة الأخرى وشاغلي وظائفها السياسية والتنفيذية العليا، وهنا تكمن المُعضلة، فنائب رئيس المجلس العسكري قال في كلمته عقب انتهاء الاجتماعات والتوافُق على الاتفاق، إنه اتفاق شامل لكل السودانيين، سيمثل كل الشعب السوداني دون إقصاء لأحد، ويتعيّن على قوى الحرية والتغيير أن تتفق هي في ما بينها على من تُرشّحه وتختاره من الكفاءات المستقلة، والقوى السياسية الأخرى الموجودة في الساحة عليها أيضاً أن تقدم للمجلس العسكري من تراه مؤهلاً ويمتلك الكفاءة والخبرة ليكون من ضمن من يتحملون عبء التكليف الثقيل المقبل.
هناك ملاحظات مهمة وأسئلة دقيقة حول الاتفاق نفسه، تًكشَف وتُجلَى وتُجيب عليها الأيام القادمة عند انتظام الاجتماعات بين طرفي الاتفاق للبدء في ترتيب تنفيذه وإصدار القرارات المتعلّقة به، مثل اختيار أعضاء المجلس السيادي والحكومة، ووضع الأطر الدستورية والقانونية لبدء الفترة وتكويناتها السياسية والتنفيذية، وربما تكون المرحلة المقبلة أصعب مما يتصور البعض، لتشابُكات القضايا والموضوعات، وستُسفر السياسة ومطامعها عن وجهها الكالِح مع بدء تعاطي الأحزاب والمجموعات السياسية داخل قوى الحرية والتغيير مع الواقع الجديد والمسؤولية التي ستتحملها الحكومة في الفترة المقبلة.
ثمة سؤال برز عقب الانتهاء من الجلسات وإعلان الاتفاق، هل كل قوى الحرية والتغيير بمكوّناتها الرئيسية الخمس، متوافِقة وموافِقة على هذا الاتفاق..؟ لأن معلومات راجت نهار أمس الجمعة أن بعضها وخاصة في كُتلة الإجماع الوطني بدأت تُعلن عن ملاحظاتها وتذمّرها مما تم الاتفاق عليه وتعتبره أقل من المطلوب، بادعاء أن الحرية والتغيير قدّمت تنازُلات كبيرة للمجلس العسكري، وهل توجد أطراف شبابية في الشارع لا تزال في حالة من الشك والرفض بسبب رفع سقف الطموحات السياسية؟ وهناك من ينظر إليه على أنه اتفاق لا يُلبي كل تلك المطالب والتطلّعات التي تم شحن الشارع بها وتعبئته من أجلها. وهناك أيضاً من يدعو إلى التصعيد والإبقاء على الشارع حامياً..!!
مع كل ذلك، بالنسبة للحرية والتغيير هو اتفاق ضرورة كما قلنا، وليس بالإمكان أبدع مما كان، أو هو كما قالت الشاعرة العربية الكبيرة الخنساء بنت عمرو الشريد عندما اقتربت من هند بنت عتبة، وهي تنشد قصيدتها في موسم المربد والناس حولها في رثاء أهل بيتها أبيها وعمها وأخيها بقولها:
أبكي عمودَ الأبطَحيْن كِليهِما
ومانِعها من كل باغٍ يُريدها
أبو عتبة الفيّاض ويحك فاعْلمِي
وشيبة والحامي الذمار وليدُها
أولئك أهل العز من آل غالب
وللمجد يوم حِين يُدعى عبيدها
فوجدت الخنساء في شعر هند بكاء وشعراً وحزناً لكنه ليس مثل ما قالته هي في أخيها صخر فقالت قولتها التي صارت مثلاً (مرعى ولا كالسعدان).. وأنشدت الخنساء
أبكي أبا عمرو بعينٍ غزيرة
قليل إذا تغْفى العيون رقودها
وصخراً ومن ذا مثل صخرٍ إذا
بدا بساحته الأبطالُ قَبا يقودها
والسعدان عُشب يزيد من لبن الإبل وهو من أفضل أعشاب الرعي عند العرب قديماً ..