د. أحمد سمي جدو محمد النور يكتب : المعاشيون.. أليسوا بشراً يأكلون ويشربون ويتعالجون؟
19 أغسطس 2022م
إن فكرة تناول هذا الموضوع قد ظلت تساورني، وتشغل حيِّزاً مقدراً من تفكيري لسنوات. وذلك لأني قد نظرت في تعامل بعض الدول والحكومات مع معاشييها، باعتبارهم شريحة أفنت شبابها في تسيير دولاب العمل وهم في مواقعهم المختلفة. يؤدون واجبهم المُقدّس تجاه الوطن. بعد أن وظّفوا كل إمكاناتهم الجسدية والفكرية والمهنية في خدمة أهداف الدولة السودانية، والعمل على انجاح المشاريع الكبيرة، في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية. وفي التخطيط والبناء والتعمير. عندما كانوا شباباً لديهم الطاقة الدافعة للعمل من خلال الوظائف التي كانوا يشغلونها. وقد أعطوا وما بخلوا، خاصة وأنهم كانوا من جيل مميز، مُتفانٍ في أداء واجبه، وناكر لذاته، في سبيل نهضة الوطن وازدهاره . كيف لا وقد قاموا بأداء كل المهام المطلوبة منهم في إطار الالتزام الأخلاقي بأداء الحقوق والواجبات ، التي هي أساس التعامل الإنساني المسؤول بين الحاكم والمحكوم، بواسطة العقد الاجتماعي الذي يحدد وبوضوح واجب الدولة تجاه المحكومين. والذي يقضي بأن توفر لهم الدولة الخدمات الضرورية من تعليم وصحة، ومعاش يُليق بإسهاماتهم السابقة . وبالمقابل فعلى هؤلاء القيام بمسؤولياتهم على أكمل وجه وأتم صورة، واحترام القوانين المنظمة للعمل، وإنجاز كل المهام الموكلة إليهم بكل همة وأمانة ومسؤولية.
إلا أنّ دول العالم الثالث التي ليس بعدها عالم آخر. قد ظلت تتعامل مع موظفيها الذين بلغوا سن التقاعد باعتبارهم أناساً غير منتجين، يجب التخلص منهم، وإلزامهم قسراً بالبقاء في منازلهم، وهم أقدر ما يكونون على البذل والعطاء. بل ومستعدون للمساهمة بخبراتهم وأفكارهم في تدريب وإعداد كوادر قادرة على استكمال المهمة بنجاح، من خلال الاحتكاك بأولئك المعاشيين الذين يمثلون الجهة الاستشارية، وبيت الخبرة لأي جهة تطلب الاستشارة. سواء كانت الدولة أو مُؤسّساتها المختلفة، بحسب تخصُّصات أولئك المعاشيين، تمشياً مع المثل القائل (لا خاب من استشار ولا ندم من استخار).
إن الدول المحترمة والتي ظلت تتعامل مع هؤلاء المعاشيين باعتبارهم بيوت خبرة، قد توصّلت إلى حقيقة مفادها، أنّ الإنسان كلما تقدّم في العمر كلما زاد عطاؤه وكثرت فوائده، لأنه قد تحوّل إلى مخزون معرفي حقيقي، إن تم توظيفه كما ينبغي لنهضت دول العالم الثالث، وازدهرت ولحقت بركب الدول المتقدمة. وهل تقدمت تلك الدول إلا بواسطة الوقوف على تجارب الآخرين وخبراتهم، والاستئناس بآرائهم وأفكارهم في مجالات الصناعة، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والزراعة والتكنولوجيا …الخ. وذلك من خلال الوقوف على مؤلفاتهم وبحوثهم، ودراساتهم في المجال المحدد.
فكيف بالله عليكم تستثمرونهم وهم في ريعان الشباب، وتتركونهم لحالهم وهم في سن المعاش؟ أما كان من أوجب واجبات الدولة القيام بتحسين أوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية والصحية، مكافأة لهم على ما قدموه من خدمات، من خلال برنامجها المعد حول المسؤولية المجتمعية إن وُجد. ومن هُم المُستفيدون منه؟ أليس المعاشيون من أصحاب المصلحة ومن المستهدفين أيضاً؟ إن الدولة ومن هذا المنطلق عليها أن تتعامل مع المعاشي باعتباره إنساناً ، من حقة أن يعيش كريماً مصاناً وليس ذليلاً حقيراً مهاناً . لأن ذلك يقدح في أخلاق القائمين على أمر الدولة في أعلى مستوياتها ، وينم عن سوء تقديراتهم . خاصة وأن في هؤلاء المعاشيين تكمن الخبرة والتجربة ، والرأي السديد ، والفكر الثاقب ، والخير كل الخير.
والجدير بالذكر أن هناك قولاً مأثوراً مفاده “إذا فقدت الكبير فقد ضاع نصف رأيك ، وإذا فقدت مالك فقد ضاع عليك شئ له قيمة ، وإذا فقدت شرفك فقد فقدت شيئاً لا يقدر بثمن ، وإذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شئ” فلماذا تفقدون استشارة هؤلاء في كل شأن من الشؤون ذات الصلة بتسيير دولاب العمل في الدولة. إنكم إن قمتم باحترام وتقدير هذه الشريحة توصلتم إلى حلول جذرية للكثير من مشاكلكم ، التي عجزتم عن الوصول إلى حلول بشأنها . أرجو من كل قلبي ألا ينطبق عليكم القول ” بأن الفاسدين لن يبنوا وطناً ، وإنما يبنون ذواتهم ، ويفسدون أوطانهم . وأقصد بفسادهم فساد الرأي ، وقلة التجربة ، وقصر النظر ، عند التعامل مع القضايا الفكرية والمصيرية في وطن كالسودان . يعاني من أزمة في الضمير ، وأزمة في الوطنية ، وأزمة في الفكر ، وغياب الخبرة والتجربة الإنسانية في كثير من المجالات ، التي لو بحث عنها صُنّاع القرار لوجدوها عند هؤلاء المعاشيين ، الذين قذفتم بهم إلى حيث الإقامة الجبرية في المنازل ، معطلين بذلك إمكانية الاستفادة من خبراتهم التراكمية ، وتجاربهم العمليّة في المجال المُعيّن . وخاصةً في مجال التعليم العالي. لأنّ الأستاذ الجامعي كلما تقدّم في العُمر ظهرت مواهبه وقدراته، ومساهماته العلمية والفكرية في مجال البحث العلمي الرصين ، وتأليف الكتب في شتى ضروب المعرفة، والإشراف على الرسائل العلمية لنيل درجات الماجستير والدكتوراه ، مع تقديم الاستشارة لمن يطلبها في مجال تخصصه الدقيق . والدليل على ذلك فقد ذكر عميد كلية الطب بجامعة جورج واشنطن، بأن دماغ الشخص الأكبر سناً هو الأكثر نضجاً. وللأسف في بعض الدول يُحال الشخص إلى التقاعد في عمر الستين بحجة انتهاء دوره في الحياة ، ويُستبدل بشخص أقل عمراً. وفي الحقيقة أن الإنسان في عمر الستين إلى الثمانين يصبح تفاعل نصفي الدماغ الأيمن والأيسر عنده متناغماً. مما يوسع إمكاناته الإبداعية . بشكل يسمح له بحل المشاكل الأكثر تعقيداً. وذلك لأنّ الشخص في عمر الستين عند اتخاذ القرارات لا يستخدم أحد دماغه في نفس الوقت مثل الشباب، بل يستخدم كليهما. فإذا كان الشخص في هذا العمر متحركاً ونشطاً، فإن القدرات الذهنية لديه لا تنخفض مع تقدم العمر ، ولكنها تنمو وتصل إلى ذروتها في سن الستين إلى الثمانين . فكم من المبدعين فقدت دول العالم الثالث ، نتيجة لهذا الجهل بالحقائق العلمية ، والدراسات الجادة التي تساهم في تقديم الحلول لمتخذي القرار في هذه الدول ، ولكنهم لا يأبهون لذلك.
وقد سميت ما حدث لهؤلاء المعاشيين فضيحة مجلجلة ، وعقوق فاضح ، وخطل فكري ظاهر ، وتقدير سيئ للأمور ، ربما ترتّبت عنه بعض الانعكاسات والمآلات ، التي قد تضر بالإنسان ، كما أشار إلى ذلك رسولنا الكريم ويقول ﷺ: اللهم مَن وَلِيَ من أمر أُمَّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، ومَن وَلِيَ من أمر أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليه. خاصة وأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قد تعامل مع الذميين الذين تقاعدوا ، فساواهم مع بقية العاملين في الدولة . ولما سئل عن ذلك قال “قد أكلنا شبابهم فلماذا لا نكرمهم في كبرهم” . وأقصد بالفضيحة الراتب الذي يتقاضاه من تقاعد من العاملين السودانيين في أي مرفق ومؤسسة لبلوغه سن المعاش، بعد أن أسدى للدولة خدمة متصلة مدتها ربما وصلت إلى نيف وأربعين سنة على أقل تقدير . فهل تصدقون بأن الراتب الشهري للمعاشي هو 3600 جنيه سوداني في الشهر، وقد تمّ رفعه مؤخراً إلى تسعة آلاف ونصف عداً نقداً، فقط تسعة آلاف وخمسمائة جنيه سوداني لا غير . وهو ما يعادل ثمن ثلاثة كيلو لحم بقري. وعليه أرجو ألا ينطبق عليكم ما قام به الخليفة الثالث أبو خالد يزيد بن الوليد الأموي القرشي 701-744م، والذي لم يدم حكمه أكثر من ستة أشهر، عندما أراد أن يقتدي بالخليفة عمر بن عبد العزيز. فبدلاً من أن يزيد رواتب الجيش نقصها، بعد أن كان يزيد الثاني الخليفة الأموي قد زادها بعد توليه الخلافة، فسمي بيزيد الناقص. فالسؤال الذي يطرح نفسه ، ما هي الأسس والمعايير التي على أساسها تم تحديد مرتب المعاشي؟ مالكم كيف تحكمون؟
إن هناك دولاً محترمة قد عالجت الأمر بعقلانية ومهنية مسنودة بالأخلاق والقيم الفاضلة ، عندما قرّرت بأن يتقاعد من بلغ سن المعاش ، وعجز عن العمل تماماً، بالمرتب الذي كان يتقاضاه عندما كان على رأس العمل ، لا ينقص مليماً واحداً . بالإضافة إلى منحة بطاقة تأمين صحي مجانية ، وعلاوة اجتماعية تضاف إلى حسابه في البنك الذي يسحب منه المعاش الشهري . وبمناسبة هذا المرتب الضئيل والمذل والمخجل نسترشد بما ذهب إليه الفيلسوف افلاطون عندما قال “الشعب الذي لا يدافع عن حقوقه في الحرية والحكم، سوف تتحكم فيه العصابات واللصوص”. وينتابني بعض الشك في أن هذا هو زمانهم . إذا علمنا بأن في دول القمع الفكري أن أرخص الأجور هي أجور المعلمين (مجرد نموذج)، باعتبارهم بناة العقول ورسل المعرفة ، والسودان أحد تلك الدول . التي نسيت أو تناست بأن المعلم هو حجر الزاوية في إعداد قادة المجتمع لإحداث التغيير المجتمعي المطلوب ، وذلك بخلق المواطن الصالح النموذج ، الذي تفتقده الساحة السودانية في عصرنا هذا . عصر التفكك الأسري ، والانحلال الخلقي، والتمرد على القيم المجتمعية المتمثلة في العادات والتقاليد السودانية السمحة. بحيث أصبح لا يوجد مَن يحترم كبيرنا ويوقر صغيرنا. ونتيجة لهذا الواقع المُزري الذي وصلنا إليه، ظهرت أصوات نسائية بلا حياء ولا خجل، وطالبن في مظاهرة شاهدها القاصي والداني وكن يقلن فيها “لا عسكرية ولا أبوية” واللبيب بالإشارة يفهم.
وعليه فإن أمة أذلت المعلم ، سوف لن تقوم لها قائمة ، لأن الشاعر قد قال في ذلك “قم للمعلم وفه التبجيلا … كاد المعلم أن يكون رسولاً” لأن المعلم يقارع الجهل من منطلق أن العلم يرفع بيتاً لا عماد له ، والجهل يهدم بيت العز والشرف. فالمعلم بخبرته وأخلاقه وسلوكه وطريقة تعامله مع طلابه ، والمجتمع من حوله، إنما يمثل النموذج والمثال المفقود في هذا الزمان الأغبر . زمان قلّ فيه احترام المعلم أو قل انعدم تماماً . فكيف بالله عليكم تديرون شؤون مجتمع يفتقر إلى القيم والمثل ونموذج الإنسان السوي المتصالح مع نفسه ، والقابل لأن يتصالح مع الآخرين . إذا علمنا بأن الفساد دائماً ما يبدأ من أعلى هرم في الدولة ، وليس من الأدنى لأن الناس على دين ملوكهم كما يقولون . تماماً كما قال مهاتير محمد باني ماليزيا من عدم “لا يوجد شئ اسمه بلد فقير أو بلد غني ، ولكن يوجد شئ اسمه حكومة فاشلة، أو حكومة ناجحة في إدارة البلد اقتصادياً وإدارياً وبذلك يتحقق النجاح”. فالثورة التي لا يقودها الوعي تتحول إلى إرهاب وفوضى خلاقة. ولنا عودة إن شاء الله تعالى.