منى أبو زيد تكتب : حكاية صحن شطة…!
15 اغسطس 2022م
“عجز الميزانية هو أكبر مُشكلات الإنفاق في الأسرة السودانية التي يتدبِّر أمرها مواطن أقرع ونزهي، فقير واستهلاكي، مثل حكومته تماماً”.. الكاتبة..!
كلما وقفتُ ذات امتحان، صامدةً في وجه رياح المظاهر العاتية، التي تعصف بأخضر النساء ويابسهن – فيُسلمهن قيادهن لسطوة البوبار اللعين! – تذكَّرتُ حكاية صحن الشطة الذي سترتْ به أمِّي في ساعة تعقُّل مباركة عورة جيبها الذي كشفت حاله مفاجأة قدومي إلى الحياة..!
أتيتُ إلى الدنيا في توقيت حرج، دفع بوالديَّ – اللذين كانا من خيرة المُدرِّسين القانعين بخيرات طبقتهم المتوسطة – إلى اتّخاذ قرار الاغتراب، كي يتمكّنا من توفير نفقات مُستوى معيشة أفضل لأسرة ظلت مكونة منهما فقط لأكثر من عامين، قبل أن ينضم إلى ركبها طفلان يفصل بين تاريخ ولادة كل منهما أقل من عام..!
وهكذا حَللتُ ضيفة غير متوقعة في بيت لم يكن في أتمّ استعداده لاستقبال تبعات زيارتي الوجودية. في تلك الأيام القاهرة خرجت أمي بعد نهاية يوم دراسي شاق مع نفر من صويحباتها المُدرِّسات اللاتي كنَّ قد ألححن عليها في مرافقتهنّ إلى بيت تاجرة “عِدّة” شهيرة. حدَّثتني أمي كيف كظمت ضيقها في ذلك اليوم بينما كان يأبى كبرياؤها الأنثوي العارم أن تبدو بمظهر أقل من صويحباتها، فيخرجن محملات بألوان القوارير، بينما تخرج هي صفر اليدين..!
في عزِّ محنتها مع حصار البوبار، لمحت أمي صحناً صغيراً، يتيماً لا يشبه ما حوله، ولا ينتمي إلى طقم بعينه. رنت بطرفها طويلاً نحو ذلك الصحن الصغير الذي بدا وحيداً في اختلاف موقفه مثلها، نائياً عن مزاج الآخرين كحالها، مُستعصماً بعزلته الصامتة، تماماً كشأنها – هي- المتنازعة بين غواية المظاهر وفضيلة التوفير..!
فهمست – بعد لأيٍ – لصويحباتها مُدَّعيةً أن لا شيء غير ذلك اليتيم الصغير قد حاز إعجابها، صامدةً في وجه خراقة منطقهن. وبينما ناءت سواعدهن بحمولها الثقيلة خرجت هي من بيت “ست العدة” بحملها الخفيف جداً..!
في بلاد الغربة، عاشت أمي أعواماً مديدة من الفتوحات المادية “بعد أن ودَّعا – والدي وهي – مهنة التدريس معاً وإلى الأبد” مَكّنتها من اقتناء ما شاء لها من حديث “العدة” وثمينها، لكنها بقيت حتى اليوم تحتفظ بذلك الصحن الصغير المبارك..!
بحكم صداقتنا الوطيدة خصّتني أمي بحكايات كثيرة مماثلة، وكأنّها تعيش عبر ذلك اعتزازها بقطاف غرسها الطويل. وكلما كرَّرتْ أمي حكاية صحن الشطة على مسامعي منحتُها أُذني في خشوع – ليس لدواعي التهذيب الواجب فقط، بل – لأنَّ حكايتها تلك تكتسب في كل مرة لوناً جليلاً..!
في أثناء تنقيبي عن شيء آخر، تعثَّرتُ ذات نهار بالصحن الصغير إياه، فملأتُه عن آخره بالسائل الكثيف الأحمر الحرَّاق، ووضعته على المائدة، فضحك بعض أشقائي على منظره الشبيه بغبار التاريخ..!
آلمني استخفافهم البريء بالصحن النبيل فعاجلتهم “إنه ليس مجرد صحن” بل أيقونة صمود في وجه عصفة “بوبار” عاتية. وعندما رأيتُ عيونهم غائمة بالدّهشة – من بين بخار صحن الفتَّة – قلت لهم مقلدةً طريقة أمي في الحكي “أنا ما حكيت ليكم حكاية الصحن دا”..!