حين هتف وردي.. أشوف الماضي فيك باكر.. أريت (شاكر) يكون هسسه..
(1)
الاعتياد على التلقي الشفاهي عوضاً عن التدوين الكتابي لتاريخ الغناء والتراث السوداني، أضاع إرثا عظيما كان من الممكن ان يفيد منه الباحثون المؤرخون بما يصل الأجيال بماضيهم التليد.. والغناء حامل للثقافة يكشف الحراك الاجتماعي عبر الحقب التاريخية المختلفة وحقانية هذه الحقب في الدلالة على حاضر وحضارة الأمم.
(2)
الباحث الموثوق الطيب محمد الطيب ابتدر موضوعه التوثيق للتراث عبر التلفزيون من خلال برنامجه (صور شعبية)، بيد أنه نهض بآخره إلى التوثيق الكتابي يتعقب (الرواة) الظاعنين في الفلوات ليستصدر عددا من الكتب تعد الآن مرجعاً ذا اعتبار.
(3)
الموسيقار شاكر عبد الرحيم في نقاش بديع يبحث أهمية التوثيق للموسيقى السودانية، وهو إذ يفعل استناداً على تجربته المستمرة في حقل الموسيقى بلا انقطاع وبلا فجوات. الرجل حين شبّ وهو تلميذٌ في المدارس الثانوية يرعى موهبته ويبرع في الجماعات والفرق الموسيقية لكبار الفنانين مزاحماً المهرة من العازفين، جاء يقدل بحقه يقدم (إضافات) بآلة الجيتار على بعض الأعمال اللحنية المستقرة مُسبقاً.
(4)
شاكر عبد الرحيم لأول الأمر تدفع به شقيقته الدرامية منى عبد الرحيم وزميل دراستها بالمعهد العالي للموسيقى الفنان عركي البخيت إلى فضاءات الإبداع وهو من ثَمّ يافع غرير ليجد نفسه عازفاً ضمن مجموعة مصطفى سيد أحمد وزينب الحويرص التي تكوّنت إبان حضور مصطفى سيد احمد من بورتسودان حين كان يعمل بها (مُدرِّساً) ليتم انتدابه الى معهد المعلمين العالي ووقتذاك يتم ابتعاث المعلمين للتدريب وللإفادة من دراسة مناهج أخرى مثل الرسم والموسيقى ليظفر الملحن محمد سراج زوج منى عبد الرحيم شقيقة شاكر بالشاب مصطفى سيد أحمد في قسم الدراما ليشهده ذات مرة وهو يدندن بصوت شجي ليقوم بتوجيهه الى قسم الموسيقى ومن ثم يقدمه في أول ظهور عبر(السمحة قالوا مرحلة) ومن بعدها (الشجن الأليم) وحينها تصادف أن يقوم تلفزيون السودان بتغطية منشط ثقافي لمعهد المعلمين تغنى فيه مصطفى سيد أحمد ليسطع نجمه ونجم الشاب شاكر عبد الرحيم عازفاً متميزاً يلفت نظر الفنان محمد وردي.
(5)
طالب الثانويات وقتها شاكر عبد الرحيم يجد نفسه عازفاً أساسياً ضمن فرق عركي ومحمد ميرغني وخليل اسماعيل في حفلات مستمرة، سوى أنه ذات مرة يطلب إليه الموسيقي عوض حرقل مشاركتهم حفلاً للفنان محمد وردي في مدينة أمبدة لتغيُّب عازف الجيتار صلاح خليل لظرف خاص في مغامرة عدّها شاكر حينذاك عملاً خطيراً يتهيّبه الأفذاذ من العازفين.
(6)
حضر الفنان وردي إلى مكان المناسبة أو الحفل ليلمح شاباً صغيراً ليعاجله جعفر حرقل بالتعريف بالعضو الجديد.. حرقل يعرف وردي جيداً ووردي يثق بحرقل، فأن تدفع بعازف إلى فرقته بلا اختبار لا يستطيعه أحد سوى حرقل .. وردي يومئ بالقبول بأنه شاهده مرة في التلفزيون ثم يسأله:- (إنت حافظ جميلة ومستحيلة؟!.) يجئ الرد بالإيجاب فهو يحفظ كل أغنياته وألحانه وقبل ذلك كانت الفرقة تهمس همساً، مرتابة بأمر الشاب فلا أحدٌ يعرفه من ذي قبل ثم الفرقة تترجى الموسيقار وردي بالعدول عن أدائها لغياب العازف صلاح خليل وهي أغنية تعتمد في لحنها على آلة الجيتار ليعلن وردي للفرقة بأن تبدأ بها الحفل ليتجلى الفتى المغمور ليس بعزفها بطريقة صحيحة وإنما بالإضافة المثرية على لحن صقل تنويعاته ملحن في قامة محمد وردي وعبقريته.. ثم عقب انتهاء الحفل طلب الفنان الكبير من الشاب الموهوب الانضمام إلى فرقته والسفر معهم غداً الى مدينة بورتسودان وأمر بمده بجدول الارتباطات الممتد لشهور داخل وخارج السودان.
(7)
الأستاذ شاكر عبد الرحيم يجد نفسه (منظوماً) في عقد فرقة الفنان محمد وردي الموسيقية قبل أن يصقل موهبته بدخول معهد الموسيقى، بل ويقدم (إضافات) لحنية لبعض أعمال الموسيقار وردي قبل أن تتقادم تجربة العمل معه و(الإضافات) هذه عبر (لوازم) الألحان فيما يتّصل بآلة الجيتار ووردي للذي يعرف اعتداده لا يمارى في تجربته، غير أنه يذعن لما يثري تلك التجارب من عمل نوعي وإضافة ثرّة ليستمر شاكر عبد الرحيم معه سوى أن حالة من (سوء التفاهم) بينهما وحالة من (أحوال) شخصية شاكر نفسه و(تمرداته) وتفوقه على ذاته حدت به إلى مغادرة الفرقة.
(8)
شاكر عبد الرحيم يعكف ببيته رغم توسل الكثيرين من معجبي محمد وردي ووساطة المقربين منه من الموسيقيين ومن شعرائه ومنهم الشاعر العظيم محجوب شريف سوى أن (شاكراً) يشكر الناس ويستميحهم الأعذار وهو يعترف بأن (وردي صنع نجوميتي) وذات يوم يطلب إليه الفنان خوجلي عثمان مشاركته حفلاً ببيت السفير النيجيري بحي كافوري ليستجيب لطلبه والحفل كان يتشاركه مع الفنان محمد وردي وحين وفد خوجلي عثمان وفرقته الى بيت السفير كان وردي في المسرح وهو يشدو بأغنية (أقابلك) وحين لمح شاكر عبد الرحيم صدح صوته: أشوف الماضي فيك باكر.. أريت شاكر يكون هسسسسسه… وسط دهشة الحضور وفرحة العازفين.
(9)
الموسيقار شاكر عبد الرحيم من بعد مغادرته وردي ظل عاكفاً على بعض التجارب الموسيقية لا ينفك يقدم جهده للشباب والمجاميع الموسيقية، ثم هو ضمن مشروعه تقديم كتابات في النقد الموسيقي والتوثيق لسيرة بعض العازفين الكبار الذين قدّموا إضافات نوعية في مسيرة الغناء السوداني وتناول تجارب الملحنين السودانيين بالتحليل الموضوعي والنقد البنّاء والتوثيق الكتابي.