تلقيت ببالغ الحزن والأسى، خبر رحيل الصديق العزيز النذير حسين (بيرو)، وامتلأ قلبي بالهمّ، لفراق هذا الشاب اللطيف المحبّ للحياة والناس، المتيّم بكوستي ومكوناتها الفريدة، الشغوف بالثقافة والفن وسائر الجمال.
وفي الحقيقة لم ألتق بالنذير طوال (20) عاماً تقريباً، لكننا ظللنا على اتصال دائم، سواء في الكتابة العامة على موقع “سودانيزاونلاين” أو الكتابة الخاصة، حيث كنا نتبادل الرسائل الإلكترونية مدة طويلة.
النذير، له عشقٌ مختلف لكوستي، وميول تصل إلى حد العدوانية في الدفاع عنها واستذكار فرادتها في كل شيء، وهو محق في ذلك. وكان أحد أركان كتيبة عريضة من بنات كوستي وأبنائها الكتّاب في “سودانيزاونلاين” (خصوصاً في العام 2004 وما تلاه)، بينهم الصديقات والأصدقاء الأعزاء إشراقة مصطفى وصلاح عوض الله (خال النذير)، ونادوس وأبنوسة وميرفت وود رملية وعبد الله حسين الجديع وأنا نزار السمندل، وكثيرون.
كان النذير “نسيجاً وحده” في الكتابة عن كوستي، بمحبة عالية وأفق متسع وسلاسة أسلوبية لطيفة، لا يغيب عنها أحد من أعلام المدينة وشوارعها وأحيائها ومعالمها الحيّة المطبوعة في الوجدان.
رحل النذير، بغتةً، دون أن يستجمّ في حضن المدينة التي أحبّ ويحيا الحياة فيها كما كان يحلم. رحل وترك قلوب أصدقائه ومحبيه الكثيرين، عُرضةً لزمهرير الأسى، وعزاؤهم أنه ترك فيهم سيرته العطرة، وإنسانيته الباذخة، وطيبة قلبه التي لطالما ضمدت أرواحهم وآختهم وخففت عنهم جراح الغربة والسفر.
..
هنا بعض ما كتبه النذير، رحمه الله، عن كوستي، في موقع “سودانيز” الشهير، في 17 أغسطس 2004م:
“كنا يفعا تأخذنا التيارات أو نعيب زماننا، ناوشني السمندل ببيوت الجالوص وأثار فيّ كوامناً من أرتال الذكريات، أتت ميرفت بليمونها وحامد الأعمى البصير ببئر يدخرها في مؤخرة عنقه منشداً نشيد الأزل وحمى السهرجة الإنسانية:
إنما الغريب غريب اللحد والكفن
وليس الغريب غريب الدار والأهل
“طاعماً كان جميل كوستي يرش الأرض ملحاً وفرحاً يجول بخاطره في الترب يقرأ شواهد القبور لأناس يستحضرهم جيداً فيحرضوه على العشق/ النقلتي ولوح وعي الفتريتة ميرفت والسمندل وإشراقة/ أم واصل والمدهش عبد الله حسين لكم الجديد/ الشديد في هذيانكم المجيد أسست إشراقة كسرتها فعاست الدهشة فينا لحظتها ترش ميرفت زنابقنا اليتيمة أو كما قالت يلهب السمندل حريق المنافي وإبر التحدي المر.. فـ صبراً آل كوستي أجمل العشاق لم يتفوهوا بعد.
“تدلف علي الحلة الجديدة بيتم الانتماء تحس برعشة الحمى السهراجة وسيمفونية التبلدي وريحة الشاطئ/ سيزيف عمود التيمان وذكرى خالد عوض الذي غرق في دمنا صدفة ففضح غربة أشواقنا لزيف التراب وللتراب غربة السديم والمطارات الـ/شالت كل ما هو جميل.
“عذراً أم واصل بأن طرقت الباب وفتحت الجدول خلسة دون علم بحر أبيض/ أبو مويتاً عذبة وشواطئه المتضجرة/ لكن الخريف طرق علي الباب فتوضأت بالنشيد المر/ يالخريفك يا كوستي/ أود هنا أن استحث نزار على الظهور لأني أدرك فعل الخريف فيه وضفادعه المتواطئة مع نقيع الروح طوبى لمن امن وارتحل.
“عبد الله حسين حصدت كأس الأشواق مرة فاستدرجت ذاكرتنا للنحيب ولا نقدر عليه هل كان من الممكن أن نبكي سوياً وليس كل حدة لو اتفقنا كانت ستكون/ بكية مجيدة لكن أنا مثلك أدمن/ فرعة النحيب وليس نحبة رجل واحد.
“تسير في اتجاه السوق وقهوة حامد وشارع آمنة قرندة واللية يالها من الياذة وادويسا/ ميرفت عليك أن تثخني الجرح جيداً في مقبل الأيام لأن الجرح للجرح/ دواية وبيت بكا وأكفان عوض شلك الرحيمة من البياض إلى البياض…
“ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر/ أين هم وال/ مهما هم تأخروا فإنهم يأتون… من سلم خماسي أو من طفشة آخر المدينة الثيب تلكم المدينة التي تخبئ رمادنا كما الهنود ليوم شكرنا.. فتذروه عكس اتجاه الريح جالوص الانتماء بيوت الطين.
“يلوك الناس الصبر والضجر في انتظار القادمين من المسافرين وحقائب المنافي.
“مساءاتك ووشوشة الأصدقاء ندماء الصبر مفتاح الفرج/ دخان الباصات القديمة عوادم الشوق.
“نعود لخلق الله الجديدة في تلك المدينة مارشات وطوابير وضيق ذات اليد والقراية أم دق موائد الكيمياء البكري/ صار الناس فيها لا يدرون من أتوا من أي قارة بعثوا؟؟
“وإذا كانت أصبحت أضيق من قبر الكافر (والعهدة على الراوي) في في قلوب البعض أفسح مجال وأرحب/ كن جميلاً تر المدينة جميلة”.
..
وأدناه، مقتطف من آخر رسالة مني إلى النذير، عن شيء ما في كوستي، لم يجد متسعاً ليقرأها:
“يحدث، يا نذير، أن تعشق المكان لأن قلبك مشغولٌ بفردٍ فيه. ويحدث أن يقع العكس فتعشق فرداً من المكان لأن هذا مسقط رأسه. أعني أن تعشق واحداً (المكان أو الفرد) بسببٍ من الآخر. إلا في عشقك لكوستي فإنك عندما تعشق المكان فإنما تعشق كل مَنْ فيه.
ويندر أن تقيم في المكان، أو تعبر فيه، من دون أن تعبر أنثى في شرايينك وتضخّ فيها كريات الدهشة البيضاء وبلازما اتحاد الجسدين في جسدٍ. هذا يحدث غالباً.. وساعتها يتحول المكان من مجرد أبنية ومفازات يسهل نسيانها، إلى إقامة في تفاصيل العشق وتمريناته التي تجدها في “طوق الحمامة” لابن حزم. أو يتحول المكان إلى مستودعٍ للذكريات التي تمدّك بفائض الأوكسجين متى ما تعرّضتَ لتضجرات العصر الحديث”.
رحمك الله يا نذير، يا حبيب الكل.