السر السيد يكتب : عوض بابكر..أو ذاكرة للنسيان
30 يوليو 2022م
تعمَّدت ألا أسبق اسم عوض بابكر بأي من الألقاب التي هو جدير بها..الإعلامي/الباحث/الناقد/ المسرحي, فإن كان بالإمكان أن نجعل للنسيان ذاكرة قد نستطيع أن نكتب عن عوض بابكر فهو من ثلة تشعل الذاكرة وتحاصر النسيان، إنه عوض بابكر الجرئ, الشفاف, السهل الممتنع, فما زلت أذكر وأنا بعد طالب في السنة الأولى بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح، مطلع الثمانينيات من القرن الماضي وفي مهرجان عروض التخرج مسرحية “الوداع الطويل” للكاتب الأمريكي تنسى وليامز التي كانت مشروع تخرجه في قسم التمثيل والإخراج، تلك المسرحية الشاعرية الدافئة التي تجسَّد عجز التواصل بين الانسان والإنسان وما يحيل إليه من بؤس وألم. عوض بابكر تلتقيه ساهماً ويقظاً، بشوشاً وغاضبا فى دهاليز الإذاعة القومية واستوديوهاتها ومكتبتها العامرة، تلتقيه في الندوات والمحافل, يحفر بأظافره وبحنان دافق في ذاكرة الأغنية السودانية بأشكالها المختلفة مع اهتمام أكثر بأغنية الحقيبة التي هو كاهنها الأكبر بلا منازع كما أرى. أغنية الحقيبة حمَّالة الروح السودانية وبعض أرشيفنا في الحداثة، يستقر هناك ويخرج من هناك ويعود إلى هناك – عوض – ليس بوصفه مؤرخاً أو باحثاً أو عاشقاً، إنه كل ذلك، فهو لا يؤرخ ولا يحلِّل فقط, إنه يفعل كل هذا وأكثر، إنه يحكي هذا الفن صاعداً به وجاعلاً منه شكلاً من أشكال الفعل والبرهان السياسي كما يعتقد المفكِّر الشهير إدوارد سعيد في ما أسماه “قوة الحكي’, فعندما يتحدَّث عن أغنية ما، أو سيرة شاعر ما، أو واقعة ما، في حقل الحقيبة، تتدفق منه ينابيع الحكي وكيف لا وهو يملك ذلك المخزون الثر من المعلومات والحكايا، إضافة إلى أنه يستند على رؤية كلية يتداخل فيها الذاتي مع الموضوعي, فالحقيبة عند عوض بابكر ليست تجربة في الماضي وليست تجربة في الآن وليست تجربة للمستقبل، إنها امتداد متعرِّج ومتقاطع في الزمن، لذلك يستنهض عوض بابكر جماع عقله ووجدانه وجسده ليروي هذه الحكاية وما يؤازر فعله هذا هو طبيعة هذا الفن وما يتمتع به من خاصية منحته صفة الخلود وهذا افتراض يجد ما يؤيده في تاريخ الشعوب الإبداعي، فلا غرابة أن كان من ضمن أدوات عوض بابكر في مقاربته تلك في كل ما يحكيه هي معرفته العميقة بأساطين فن الموسيقى والغناء العربي والأفريقي والأجنبي، باعتبار -كما أزعم أنا- أن الحقيبة فناً تنتمي إلى الزمن الكلونيالي محلياً وعالمياً وهو ما يجعلها ذات تماس مع الحداثة وظاهرة المدن، لذلك فهي رمزياً تعني استعادة (الهوية المنتهكة) بكل ما تحمل كلمة هوية من دلالات، فالحقيبة وفقاً لمقاربات عوض بابكر تجد جذرها في الإرث الموسيقى للثقافة النوبية، وهذا افتراض سمعته من عوض شخصياً وله شواهد كثيرة في التدليل على هذا الافتراض، تتنوع المداخل إلى عوالم عوض فهو “مجنون الطرب”، ينهل من كل منابعه بمحبة وصبر ودراية يحدثك عن حاج الماحي وود سعد ويحدثك عن زنقار ووردي وعن الفلاتية وعثمان حسين، ويتجلى كثيراً عندما يتحدَّث عن عبد المعين. أتاحت لي الأيام والظروف أن التقي يومياً بعوض، فنحن نعمل في مكان واحد هو إذاعة هنا أم درمان وعبر هذه اللقاءات تكشفت لي أشياء كثيرة عن الغناء السوداني ولمست بقلبي شغف عوض بابكر بهذا الإرث الجمالي المعرفي الكبير للدرجة التي تجعل من عوض حارساً ومن حر وقته وماله لهذا الإرث الذي لم ينج من محاولات المحو والمصادرة والتحريف.
ثمة علاقة بين “الوداع الطويل” وبين النسيان، فالوداع خاصة أن كان طويلاً تشده وشائج قوية إلى النسيان وكل هذا له وصل بعوض بابكر فهو بقدر ما قدَّم ويقدِّم “برنامج حقيبة الفن – برنامج صدر المحافل وغيرهما من البرامج واللقاءات التلفزيونية والإذاعية والمحاضرات، إضافة إلى عشرات الدراسات العليا التي كان مصدراً لها، كان عوض ولا يزال ومن ماله الخاص على قلته ومحدوديته يقوم بشراء وحفظ العديد من الأسطوانات النادرة، إلا أن ما هو مرهق وأشق من ذلك كله هو استشعاره الهم والمسؤولية تجاه هذا الفن”، برغم كل هذا لا يجد هذا الجسد النحيل وهذه الروح الوثابة وهذا الذهن المتقد والنفس الأبية الكريمة التقدير الكافي، بل ويكاد أن يلفه النسيان, ليس في شخصه فقط وإنما فيما يقوم به من عمل استرتيجي، أن عوض من صناع الروح وحراس أمننا الثقافي.
إن أمثال عوض بابكر في الدول التي تحترم الثقافة والفنون يكرَّمون ويحتفى بهم ويملكون كل ما يحتاجونه لإنجاز مهمتهم لأنهم باختصار حراساً للروح والذاكرة.