28 يوليو 2022م
“تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، وحيثما صار التنوير وصل التعبير”.. ابن عطاء الله السكندري..!
أثار حفيظتي مقطع فيديو لشاب سلفي يكيل السباب والشتائم لشيخ طريقة معروف بقصائده التي اشتهرت وسارت بها الركبان في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم يفعل غير ذلك لكفاه شرفاً ورفعة ومكانة. أما السبب في تطاول ذلك الشاب فهو أنّ الشيخ قد اهتز جسده وتهدج صوته وهو يصيح من رهبة الموقف – أي أنه قد “دخل في أحوال” كما يقول أهلنا الصوفية – وهو يستمع إلى تلاوة شيخ الزين لما تيسّر من بعض آيات القرآن الكريم..!
مشكلة هذه الأمة هي وصائية بعضها على الآخرين وأحكامهم الجائرة على طرائقهم في حب الله وحب رسوله، وإلا فما الذي فعله الرجل سوى أن جسده كان ينتفض لأن روحه كادت تذوب في حب الله ورسوله؟. نحن شعب متدين بطبعه والصوفية تجري في طبائعه، يرمي حموله على الله ويلوذ بالخلوة أو يلجأ إلى المسيد كلما أثقلت كاهله الهُمُوم وتكالبت عليه المحن. ورغم إنكار المنكرين من المتطرفين في إطلاق الأحكام وتوزيع صحكوك البراءة والإدانة، ظل دور المسيد في هذا السودان عظيماً، يطعم الطعام ويجير المُستجير ويغيث الملهوف. شعاره الإصلاح وديدنه الصلح..!
وليس أنبل ولا أعظم من مواقف أبينا الشيخ الياقوت ووقفاته الوطنية الكبيرة، المشهودة، التي تختزل معنى الإجارة، ومبنى الزعامة، وروح المواطنة، وقيمة المساواة الإنسانية. فهو قد استقبل المئات من طلاب دارفور بجامعة بخت الرضا، عندما وقفوا بباب مسيده بقرية الشيخ الياقوت. كان أولئك الطلاب يقفون على مشارف بوابة العبور بين ولاية النيل الأبيض وولاية الخرطوم، قبل أن يعودوا أدراجهم فلا يجدون ملاذاً أكثر حفظاً من ذلك المسيد الذي عبروا إليه حانقين.. متمردين، وخرجوا منه مهللين، مكبرين..!
وفي عقر دار الصوفية – التي يتشدق المتطرفون بخروجها على تعاليم الإسلام – اجتمع المعتمد ووزير التربية بالولاية ومدير شرطة الولاية مع الطلاب، وجاء ممثلو الأحزاب وممثلو النقابات. ووافق الطلاب لأكثر من ثمانين بالمائة على نقاط الحلول. ولك أن تتخيّل ما الذي كان سيحدث. كيف كانت ستتدحرج كرة الغضب تلك، وأين كان سيستقر بها المقام يا ترى، إن لم يكن قد استقر بهم – بفضل الله وحمده – في مسيد الشيخ الياقوت..؟!
وهو الشيخ الوالد الذي اقتحمت أفواج من إخواننا الجنوبيين مسيده بعد انفصال الجنوب، وكانوا في جوع ومسغبة فلم يسأل عن دين أو لغة، ولم يثنه ما استحدث من ترسيم الحدود عن إكرام الضيف وإغاثة الملهوف. وهو الشيخ المعلم الذي أخمد نيران الغضب، حينما اندلع تمرد أكاديمي قاده طلاب أفارقة في جامعة أفريقيا – قبل أعوام – فامتنعوا عن الامتحان وأضربوا عن الطعام، وتدخلت منظمات المجتمع المدني، وتقاطر سفراء الدول التي ينتمون إليها. فزارهم وجلس معهم على الأرض ومثَّل السوداني الأصيل – خير تمثيل – بطعامه وماله وحكمته وموعظته الحسنة..!
إن تلك المباني المترامية على امتداد هذا السودان ليست قباباً وأضرحة وشيوخ سجادة وحلقات ذكر – فحسب – بل هي ملاذات آمنة لكل فئات وطبقات وأعراق هذا السودان الكبير. لذا كان جمال وجلال التصوف وسيظل أقوى مُمسكات الوحدة ومرافئ الحكمة في هذا البلد، وما يشهده السودان اليوم من محنٍ وإحن يحتاجهم كثيراً، بل هو في أشد الحاجة إليهم. فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر..!
munaabuzaid2@gmail.com