سراج الدين مصطفى يكتب : نقر الأصابع
الفنان المحترم
(1)
قناة “الشروق”، كانت تجربة ثرة جداً ومحطة مهمة في حياتي المهنية، لا أستطيع بأي حال من الأحوال تجاوزها أو القفز من فوقها، ولعلي كثير الاسترجاع للعديد من المواقف والأحداث التي صاحبت تلك الفترة الزاهية، ومكمن الزهو أن قناة “الشروق” كانت تتسم بنظام إداري صارم وتنتقي طاقمها الفني بطريقة الغربال الناعم والوجود ضمن توليفتها يتطلب مقدرات خاصة جداً. وأذكر بأنني كنت الباحث البرامجي الذي تم اختياره للعمل ضمن طاقم برنامج (سكة وتر) وهو برنامج توثيقي عالي القيمة، أنتجنا منه أربع حلقات فقط، ولكن أي حلقة كانت بمثابة وثيقية تاريخية محكمة لمن استضفناهم وكلها عبارة عن مراجع مهمة جداً نسبة الخطأ المعلوماتي فيها تكاد تكون معدومة .
(2)
وفي تلك الحلقات قمنا بالتوثيق للفنان الكبير شرحبيل أحمد، توقفنا في تجربته العظيمة كلها بتمرحل سلس وتسلسل تاريخي منطقي، كانت حلقات متفرِّدة بتفرُّد صاحبها، ولعلي عايشت عن كثب شرحبيل أحمد في تلك الأيام واقتربت منه كثيراً، وكنت أقوم بخدمته (كأب) وكإنسان في غاية التهذيب والأدب لا تسمع صوته إلا همساً، ومن ملاحظاتي الشخصية على شرحبيل أحمد فهو لا يشرب (الماء البارد) أبداً ويلجأ (للماء الفاتر) وحينما سألته عن ذلك السر، قدِّم لي محاضرة في كيفية المحافظة على (الصوت البشري)، وعرفت لحظتها كيف أنه استطاع أن يحافظ على صوته بكل هذا الألق والجاذبية حتى وهو يتجاوز الثمانين من العمر .
(4)
وذلك درس بليغ للأجيال الجديدة في كيفية المحافظة على الصوت البشري دليلاً على احترام السيرة الذاتية المبرأة من كل عيوب الموبقات، وهذا الموقف البسيط عميق المعنى يؤشر على قيمة احترام الفنان لنفسه أولاً. كما فعل معي الموسيقار يوسف الموصلي والذي كنت أحاوره حواراً ساخناً عقب عودته من الهجرة الطويلة في أمريكا وغيابه لأكثر من عشرين عاماً، متصلة بسبب الذهنيات الإقصائية والقمعية التي سادت في فترة حكم الإنقاذ الأولى، حينما أغلقت الإذاعة والتلفزيون الأبواب أمام المبدعين الأصلاء وتركته مشرعاً أمام (الدبابين أسود الغابة) و(أمريكا روسيا قد دنا عذابها) و(دفاعنا الشعبي ياهو دي).
(5)
وتلك هي الفترة تحديداً التي انهارت فيها الأغنية السودانية وعاشت في غربة حتى اليوم، وهي ذات الفترة التي حاربت فناناً مثل: مصطفى سيد أحمد حتى جعلت موروثه الغنائي موزع بين أصدقائه وتخلو منه مكتبة التلفزيون ما عدا سهرة مع الراحل محجوب عبد الحفيظ وبضع أغنيات مسجلة كسهرة من حفل نادي الموردة حينما فاز ببطولة كأس السودان في العام 1988م، وتمظهرت اللوثة الدينية في أبهي صورها حينما تم إيقاف بث الأغاني العاطفية تماماً بفعل بعض المتشنجين والمتماهين معهمم من أهل الحيشان، وليس أدل من ذلك حينما أوقفوا بث أغنية (العزيزة) للراحل سعد الدين إبراهيم وقالوا بأنها أغنية تدعو للسفور والتبرُّج بسبب هذا المقطع:
سلميلنا علي ضفايرك
موجة موجة وسلميلنا..
(6)
وكلمة (ضفايرك) فقط كانت سبباً في منعها من البث، والنماذج كثيرة لا تحصى ولا تعد من بينها أغنية “حكاية عن حبيبتي” لـ(أبوعركي البخيت) وأغنية “يا ضلنا” لمصطفى سيد أحمد وأغنية “مريا” لحمد الريح، وسأعود لها بالتفصيل والتوضيح والتشريح لأسباب إيقافها بفعل اللوثة والهوس الديني الذي اتضح لاحقاً بأنه مجرَّد شعار عريض للتيار الإسلامي المريض بالسلطة.
المهم في الأمر أن الموسيقار يوسف الموصلي أوقف الحوار بيني وبينه وأعتذر لي عن المواصلة في الحوار بسبب (بروفة) له في اتحاد الفنانين، وقال لي تحديداً بأنه حريص على الوصول لمكان البروفة قبل العازفين، وموقف شرحبيل أحمد مقروناً مع موقف يوسف الموصلي يؤكد بوضوح وجلاء أن الفنان يكبر ويخلد في وجدان الناس باحترام نفسه أولاً ثم احترام المتلقي.