22 يوليو 2022م
عادةً لا أزج بنفسي في مناقشة تكتيكات وخطط التحركات العسكرية وطرائق معالجات الأزمات، على شاكلة الصراع القبلي الدموي بالنيل الأزرق، لا أزج بنفسي في أتون هكذا نقاش مع العسكريين، احتراماً لسرية تلك الأمور ثم أنه عدم ذوق أن تبحث مع عسكري احد أدوات عمله.
خلال تواجدي بالدمازين، جلست مع مختلف قطاعات المجتمع ومؤسسات الدولة، وجدت آراءً متشعبةً ومختلفةً، بل متضادة في الاتجاه، وبعضها قاسّ في حق القوات النظامية واتهامها بعدم التعامل بجدية مطلقة مع المتفلتين الذين يواصلون التعدي على الطرف الآخر.
لكن على الأرض، وجدت ألف عذر لهذه القوات في تعاطيها بحكمة كبيرة ومطلوبة مع صراع إثني إذا ما انضم له طرفٌ ثالثٌ حتى لو قوات عسكرية، سينفتح على كافة الاحتمالات بما فيها الحرب الأهلية، لذلك تعامل تلك القوات بحكمة قرار موضوعي، لأن اي تصرف (قوة) سينعكس على أرض النزاع وربما أجّجه أكثر، وجود القوات الكبيرة ساهم بشكل حاسم في إحكام قبضة الحكومة على الأمر، ومنحها زمام المبادرة، وفتح المجال لمؤسساتها المعنية بالعمل الإنساني بالدخول لمناطق الأحداث وتقديم خدماتها، على رأسها ديوان الزكاة والصحة… الخ رغم وجود تفلتات من هنا وهناك، لكنها معزولة وتُعد متبقي صراع لا صراعاً متواصلاً وهناك فرق كبير.
من جملة هذا المشهد المملوء بالدماء والدموع والاشخاص الذين فجعوا في أطفالهم، وجدت بالمستشفى العام ارباب اسر بعضهم فقد عقله، فاضطرت السلطات الصحية للتعامل معه بالعلاج المناسب، وجدوه وحيداً ببيته بمنطقة النزاع مذهولاً مما جرى لأسرته رغم انه لم يحكِ التفاصيل، لكن حاله يشرح مُعاناته وألمه النفسي وحجم الكارثة التي نزلت على مجتمع بحر ازرق المسالم المتعايش.
الأزمة التي يديرها حاكم الإقليم وأجهزة الأمن والقوات العسكرية، يبرز الكثير من القادة في وسط هذه الأزمات والنزاعات، تصقلهم التجارب والمعارك وتجلو معدنهم، اقتربت بحكم تواجدي بالدمازين من قائد الدعم السريع بالإقليم المقدم عبد الرحمن حميدة البيشي وطاقمه ومكتبه الذي يديره ضابط شاب من أبناء الأبيض بكفاءة عالية ولافتة للنظر (أحمد تاتاي)، قومية تبدْت في سحنات وألسن وطبائع جنود وضباط الدعم السريع، إذ يمثلون كل السودان وسط غلبة لأهل إقليم النيل الأزرق وهو أمر طبيعي، يدير البيشي تلك القوات بطريقة يمزج فيها بين شدة القائد العسكري، وسعة بال شيوخ العرب وكرمهم، لذلك تجد جنوده حوله يقدرونه ويتعاملون معه بحبٍّ، حتى حديثهم عنه فيه الكثير من مشاعر الاحترام والتقدير على الأرض. صادفت مرور قوة لمتحرك الدعم السريع الذي يرابط خارج الدمازين وسط أجواء ماطرة ليلاً، خرج أهالي حي الزهور يهتفون للقوة المتحركة وسط زغاريد النساء، ما يؤكد المكانة الكبيرة التي حُظيت بها هذه القوات النوعية وسط مجتمع النيل الأزرق.
لم أكتفِ بالاختلاط والتواصل مع قوات الدعم السريع وحدها، سلاح المدفعية أيضاً تقوده نخبةٌ من ضباط القوات المسلحة يمثلون شرف الجندية الحقيقي، يعملون وسط ظروف قاهرة وصعبة واستثنائية دون كلل أو ملل، وفي ذلك تتشارك كل القوات حتى الشرطة وأفرعها المتنوعة ويسهر الجند بمختلف وحداتهم في خلاء مطير ومظلم، تسعى بين عتمته العقارب والثعابين وهو دأب الجندية السودانية وتضحياتها المألوفة والمتوارثة كابراً عن كابر.
أعتقد ان جزءاً من الشعب السوداني مطالبٌ بإعادة النظر في علاقته بقواته العسكرية وتعظيم دورها الكبير في حماية الأرض والعرض.
والمطلوب من المجتمع السوداني العريض خاصة ولايات الجوار التدخل كمجتمع لإزالة آثار النزاع، وتصفية النفوس، ومحاولة عقد المُصالحات توطئة لعودة الفارين الى مناطقهم ومنازلهم، بموجب اتفاقيات عالية المصداقية تحميهم وتُؤمِّن ظهورهم.