الخرطوم: الطيب محمد خير 18 يوليو 2022م
اتسمت العلاقة الحدودية بين السودان ومصر منذ عام (1956م)، بالشك والريبة بسبب النزاع الذي نشب منذ استقلال السودان حول مثلث حلايب المطل على البحر الأحمر على الحدود المصرية السودانية بمساحة (20.5 ألف كم2)، ويضم مناطق “حلايب”، “شلاتين” و”أبو رماد” الغنية بالمعادن، بالرغم من المحاولات التي بذلها الطرفان لتحسين العلاقات بالتفاعل السلمي في العلاقة الحدودية، إلا أنهما انخرطا في نزاع حول مثلث حلايب، وصل في عام 1958م، إلى حافة الاشتباكات المسلَّحة عندما قرَّر السودان إدخال منطقة حلايب ضمن قانون الدوائر الانتخابية بموجب التقسيم الإداري لعام1902م، فاعتبرت مصر القرار مخالفاً لاتفاقية عام 1899م، فأرسلت جيشها لمنطقة المثلث وأرسل السودان -أيضاً- جيشه، وانتهى التصعيد دون مواجهة بعد أن سحبت مصر قواتها، واكتفت بإرسال مذكرة إلى الأمم المتحدة مطالبة بحقها في استعادة المناطق الواقعة تحت الإدارة السودانية، رغم ذلك استمرت المنطقة مفتوحة أمام حركة التجارة والأفراد من البلدين.
1995م، عاد المثلث للواجهة حيث حسمت مصر سيطرتها على المثلث عسكرياً، رداً على محاولة اغتيال الرئيس المصري مبارك، في أديس أبابا الذي اتُهِمت فيه الخرطوم رغم نفيها تدبير الحادثة، وفي عام 2010م، اعتمد السودان المنطقة دائرة انتخابية تابعة لولاية البحر الأحمر، واعتبر سكانها مواطنين سودانيين يحق لهم التصويت، لكن الأمر لم يُنفذ على أرض الواقع.
التفاوض المباشر
في أبريل عام 2016م، دعا السودان مصر إلى التفاوض المباشر حول المثلث المتنازع عليه، لكن مصر رفضت، ولجأ السودان لتقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن الدولي، مطالباً بتحكيم دولي حول حلايب الذي يتطلَّب موافقة الدولتين، واستند السودان في أحقيته في تبعية المثلث لأراضيه على اتفاقية الحكم الثنائي الموقعة بين مصر وبريطانيا عام (1899م) التي أطلقت لفظ السودان على جميع الأراضي الواقعة جنوبي دائرة عرض 22 شمالاً، وعلى قرار إداري أصدره ناظر الداخلية المصري في عام (1902م) ولم تعترض مصر عليه ولم تتحفظ على الحدود حتى استقلال السودان، لكن مصر رفضت الدعوة للتحكيم حول حلايب، لقناعتها بأن السودان سيكسبه من واقع الوثائق التي سيدفع بها، مؤكدة سيادتها على المثلث، وظل السودان يجدِّد شكواه سنوياً أمام مجلس الأمن الدولي وكان آخرها في يناير 2020م، عندما طلبت حكومة السودان من مجلس الأمن الدولي بشكل رسمي، إبقاء قضية النزاع حول مثلث حلايب في جدول أعمال المجلس وظلت مصر ترفض على الدوام.
ورغم محاولات التقارب وتوحيد الرؤى بين حكومتي البلدين إصرارهما على العمل لحل النزاع حول حلايب على مر الحقب بعيداً عن الإعلام واللقاءات الرسمية بين المسؤولين، إلا أن قضية حلايب ظلت شوكة في خاصرة العلاقة تبرز متى ما توترت العلاقة، وتظل احتمالية نشوب صراعات أكثر خطورة بين مصر والسودان بسببها قائمة رغم محاولات الابتعاد بها عن حافة التصعيد، وفي ظل الحكومة الانتقالية ظهرت قضية حلايب المرة الأولى في سياق رد رئيس مجلس الفريق أول عبد الفتاح البرهان، على سؤال مباغت من مراسل قناة الجزيرة هل حلايب وشلاتين سودانية أم مصرية؟ وتجنب البرهان الإسهاب بالخوض في هذه المسألة الخلافية مع مصر، مكتفياً بإجابة مقتضبة إن القيادة السودانية الجديدة لم تبحث مع القيادة المصرية قضية حلايب وشلاتين، مؤكداً أن المنطقة سودانية وأن بلاده ستعمل على استعادتها، ويظل السودان ومصر إخوة ولن نتطرَّق إلى هذا الملف مع الجانب المصري في الوقت الحاضر، وفي المرة الثانية أعلن البرهان، صراحة في كلمته بمناسبة العيد الـ66 للجيش في منطقة وادي سيدنا العسكرية، أن “القوات المسلحة لن تفرِّط في شبر من أرض السودان”، وأضاف: (حقنا ما بنخليه ولن نتراجع عنه ولن ننساه حتى يتم رفع علم السودان في حلايب وشلاتين وفي كل مكان من السودان)، ومن جانبه أثار رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، قضية حلايب وشلاتين، علناً، خلال زيارته للقاهرة 11 مارس 2021م، ووصفها بالقضايا الشائكة المسكوت عنها بين مصر والسودان رغم أن الحديث الآن عن هذه القضية ليس من اختصاصات السلطة الانتقالية، إلا أنه طلب بوضوح، فتح ملف مثلث حلايب وشلاتين، المتنازع عليه مع مصر من أجل التفاهم حوله.
عصي الحل
ويرى أستاذ الدبلوماسية د. عبدالرحمن أبو خريس، في حديثه لـ(الصيحة) أن ملف مثلث حلايب ظل عصي الحل والتناول على كل الحكومات المتعاقبة منذ استقلال السودان ديموقراطية وعسكرية، وظل من الملفات المسكوت عنها بسبب الضبابية والغموض الذي يكتنفه، وأضاف: طالما أن هناك مخاوف تعتري الحكومات السودانية من باب أولى أن تعلن السلطات السودانية للشعب السوداني صراحة تنازلها عن هذا الملف الذي لايجد أي اهتمام حلايب أرض سودانية، وهذا أمر يؤسف له أن تظل الحكومات السودانية المتعاقبة بما فيها الحكومة الحالية تتهيَّب الدخول بطريقة جادة في تناول هذا الملف الذي يلامس قضية سودانية مثبَّت فيها أحقية السودان بوثائق، لكن لاعتبارات تراها السلطة السودانية دائماً تتعامل من باب أن مصر والسودان أشقاء ولا يمكن أن يحدث بينهما نزاع حول الأراضي ليفجِّر حرباً، لكن مصر لا تنظر للقضية والعلاقة من منظور الجانب السوداني.
وأكد د.أبو خريس، أن السودان لا يمكنه التحدُّث عن هذا الملف وينال حقه باستعادة المثلث، إلا في حال وجود حكومة ديموقراطية مدنية قوية مسنودة جماهيرياً، حكومة رجل واحد يؤمن بحق السودان، لكن الحكومات السابقة كانت أما ديموقراطية ضعيفة أو عسكرية مسنودة من تنظيم سياسي له أجندة، وأضاف: الأمر الثاني أي حكومة تعاقبت على السودان أما تجدها كانت موجودة كمعارضة مستضافة في القاهرة أو العكس تجد هناك معارضة للحكومة موجودة في القاهرة تدعم الجانب المصري وأحقيته المدعية في مثلث حلايب، وهذا يرجع لعدم وجود ثوابت وطنية وخطوط لا يمكن تجاوزها تجاه قضايا السيادة الوطنية مهما كان وضع القوى السياسية سواءً في الحكومة أو المعارضة، فمثلاً حكومة مرسى الإسلامية في مصر رغم تقاربها مع نظام البشير، لم تخرج الجيش المصري من حلايب، والسبب لأن هناك اتفاق حتى أن كان ضمنياً على ثوابت وطنية لا يمكن تجاوزها، وهذا غير موجود لدينا في السودان، فتجد المعارضة لمجرَّد أنها مستضافة تدعم الموقف المصري، وبالتالي أختم أن هذا الملف سيظل عالقاً ولن يحل حتى توجد حكومة سودانية وطنية حقيقية.
نقطة اللا حوار
من جانبه قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري د. عمر عبدالعزيز لـ(الصيحة): إن تحاشي الحديث وتصعيد هذا الملف في الجانب الرسمي واضح هناك تخوُّف من أنهم يصلوا نقطة اللا حوار، والعكس عندما وصل الأمر في الفشقة لنقطة اللا حوار (ناس الجيش توكلوا على الله وحلوها بقوة السلاح)، لكن هذا النهج مع مصر من الصعب أن ينجح، لأن الضغط السياسي كبير خاصة في الفترة الحالية الحاجة لمصر في أمور كثيرة، لذلك السودانيون لا يريدون فتح هذا الملف والتوغل فيه حتى لا يصلوا لنقطة اللا عودة والفترة الانتقالية، من أضعف فترات الحكم على الإطلاق والأفضل أن يجتهد في الوصول لتوافق بدلاً من النزاع بين العسكريين والمدنيين الذي عطَّل اتخاذ كثير من القرارات في العديد من القضايا الوطنية المصيرية في سلم الأولويات القصوى وحتى الدرجة الأخيرة منه.
الحقب الماضية
واتفق د. عمر، مع أبي خريس، أن هذا الملف لا يمكن معالجته إلا عبر حكومة قومية ديموقراطية منتخبة انتخاب حقيقي وبيدها كل الصلاحيات بالتحدث عن كل المسكوت عنه، ولها كامل التفويض في اتخاذ القرارات كافة، لكن هذا كان مفقوداً في الحقب الماضية، حتى ظهرت قضية محاولة اغتيال حسني مبارك، التي كان لها أثر كبير في العلاقات السودانية المصرية واتخذته مصر ذريعة لدخول جيشها حلايب، وظل السودان يتعامل بمهادنة كبيرة والحد الأدنى تجديد الشكوى سنوياً في مجلس الأمن، لكنها لم توضع على قمة سلم الأولويات ولا أتوقع أن توضع في القريب.