سخط ولكن حبل العشم ممدود..!!
إن من ينظر إلى أشكال التعبير السياسي المدني عندنا في السودان وبعض دول العالم الثالث ويقارنها بأشكال التعبير السياسي في العالم الأول (أوربا مثلاً) يدرك أن الفرق كبير من خلال وعي المواطن الغربي الممارس للسياسة الذي يصنع الفعل وينظر له والمتعاطف الذي يحركه وفق مصالح المجتمع، وليس وفق مصالح السياسة الضيقة، ولذلك نجد خطاب السياسي الغربي له تأثير لأنه يتسق مع مصالح وثقافة الرأي العام التي ترفض ضياع المصلحة العامة أثناء التعبير لدرء المفسدة.
والإنسان الأوربي حينما يخطط لموكب تعبيري احتجاجي ينظر أولاً إلى اليوم الذي ينفذ فيه النشاط هل هو يوم عمل، وإذا تم تنفيذ الفعل في ذلك اليوم يتعارض مع مصالح الناس أم لا، لذا دائماً ما نجدهم ينظمون فعاليات مسيراتهم في أوقات وأيام العطل الرسمية وخواتيم أيام العمل، فهي فلسفة هدفها عدم حدوث خسائر مادية نتيجة إغلاق المواقع التجارية والمحال الخاصة، لكن انظر إلى حالنا في السودان يتحرك السياسيون بدون معايير ثابتة تراعي مصالح الدولة والمجتمع ويخططون لمسيرة مليونية في أول يوم لانطلاقة أسبوع العمل، ويتخفون خلف شاشات القنوات الفضائية لمعرفة حجم الأثر الإعلامي جراء أوهام مسرح العبث السياسي الذي تمارسه النخب الزائفة والأحزاب الهيكلية التي تعمل بأفكار مستوردة وتوكيلات مؤدلجة دون أن تكلف نفسها إلى تفكيك هذه الأفكار وإسقاطها على الوضع الخاص للبلاد ومراعاة مصالحها وحقوق إنسانها البسيط الذي فشل العقل الجمعي للسياسيين وهم في غمرة صراعاتهم أن يقرأوا واقعه المعيشي وتحديد احتياجاته ومعوقات نهوضه، وما هي اليات تقدمه. فشلت النخب السودانية حكومة ومعارضة في رسم صورة مقربة لمستقبل السودان وفق فقه الأولويات والمقاصد والمآلات حيث تجد النخب المعارضة تخطط لحراك سياسي ولا تتقدمه بعقلانية وتشرف على تفاصيله ميدانياً وتتركه للعواطف وهي تعول على ثقافة العوام الذين بعضهم ينظر للأمر على أنه فعل جسارة وعضلات وعنف دون النظر الى المنطق والعقل وإذا أحد الناس حاول لمجرد محاولة أن يقول برأي راشد وموجه تثور عليه الجماهير وتهيج وتصفه بعبارات قاسية كأنه خائن ومندس وهلمجرا.
أصبحت مصالح المواطن ضائعة ما بين خطاب الناشط الحالم المتربع خلف الفيس بوك والواتساب وهو في عز راحته بالعواصم المترفة وثورة الميدان وضياع المصالح في إغلاق الشوارع والكباري والمحال التجاربة والموت أحياناً.
السؤال: هل ثورتنا التي أنجزها أهل السودان ستتمكن من وضعنا على طريق صناديق الديمقراطية وتنجب لنا زعماء رعاة مثل حسن الترابي ومحمد أحمد المحجوب، وعلى شاكلة من أنجبتهم أكتوبر 1964 وأبريل 1985م وغيرها من هبات شعبية.
هل ثورتنا المجيدة يمكن أن تصنع أحزاباً متباينة في المشارب والآليات ومتوحدة في الغايات الساعية لنهضة وحماية السودان وإسعاد أبنائه??
أخيراً أقول: علينا كشعب ونخب أن نضع في الاختيار ما بين أبطال الفيس بوك وأساطين المنابر الإعلامية ومخلصي الوطن وقادة التنوير والإصلاح مع العلم أن سيف الله لم ينتصر إلا بعبقرية خالد ونصرته لله ورسوله، وأن عدل عمر لم يتحقق إلا بورع وعقلانية .
قصدت القول أن القدوة والأنموذج هو الأهم وإنني أدرك أن استنساخ هؤلاء الرموز واستدعاءهم ضرب من الخيال في ظل واقعنا الحالي، بيد أنني أتعشم في صناعتهم بتجديد ثقافتنا على نحو نغلّب فيه مصالح الوطن على مصالحنا الذاتية، وأن تصبح ثورتنا دافعة لقوتنا ولإعادة بناء وطن من جديد.