الساعوري: الأحزاب التي طالبت بإبعاد النفوذ العسكري هي التي دعت العسكر صراحة للتدخل وإسقاط الحكومة
د. أبوبكر: (التهميش والإقصاء والاستقطاب) ثالوث (التعميد والعزل)
الخرطوم: عبد الله عبد الرحيم
لم تدم الحياة السياسية السودانية على حال مستقر ساعد أو مكّن الأحزاب من ممارسة دورها السياسي المرتجى بالبلاد، بيد أن الأحوال وقتها تنقلب رأساً على عقب بمجيء أي حاكم وتحديداً إذا كان عسكرياً، إلا أن فترات الديمقراطية على قلتها لم تسلم من تلكم الهجمة السياسية. فما بين اليمين المعتدل واليسار المتهور، ظهرت الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون، ما أدى لظهور الخلافات بين الأطراف السياسية على حكم البلاد.
تلك كانت البداية التي جاءت من بعد حين بحكومة الإنقاذ التي استمر حكمها لثلاثين عاماً كأطول فترة حكم لحكومة وطنية منذ الاستقلال شأنها في ذلك شأن كل الحكومات المتعاقبة في السودان، والتي غالباً ما تأتي بانقلاب عسكري.
وهكذا اختلطت الحياة السياسية، بالحياة والنموذج العسكري المنفذ للانقلابات في السودان منذ تلك الفترة، وكانت التغييرات السياسية سلماً للسلطة، إما أن يأتي بشكل ديمقراطي أو على فوهة البندقية، الصورة الأكثر ظهوراً في خارطتنا السياسية..
وهذا الأمر هو الذي اتبعته الجبهة الإسلامية المنشقة عن الإخوان المسلمين برئاسة الراحل الدكتور حسن عبد الله الترابي، والتي وصلت لحكم البلاد في العام 1989 عبر الانقلاب الشهير الذي نفذه العميد عمر حسن أحمد البشير. ومن ظروف بداية حكم الإنقاذ أن البلاد فقدت الكثير جداً من مقومات الحياة (الاستقرار- الأمن- السلام)، إثر الصراعات التي كانت تدور بين الأقطاب السياسية، وهم يديرون البلاد في تجرية ثالثة لم يستعدوا لها الاستعداد الأمثل، إذ شهدت الفترة صراعات أدت إلى مقاطعة الجبهة الإسلامية للبرلمان عقب الائتلاف الذي تم بين حزبي السيدين الصادق المهدي والميرغني الحاكمين للبلاد في تلك الفترة.
ولما كانت الحرب في الجنوب تدور رحاها وسط موازنة مختلة بين الجيش السوداني الذي فقد كل شيء (التسليح –الروح القتالية- والإرادة العسكرية) التفت الجبهة الإسلامية حوله عبر عناصرها في القوات المسلحة واستطاعت قلب الطاولة على السيدين وإعلان حكومة الإنقاذ الوطني الاسم الخفي للجبهة الإسلامية السودانية، حيث دار لغط كثيف في الأوساط السياسية والمحافل الدولية عن ماهية منفذي الانقلاب، إلى أن ظهرت حقيقة وأصل الثورة التي كان يقف خلفها الشيخ الراحل الدكتور حسن الترابي بكامل حزبه.
بداية الانقاذ
بدأت حكومة الإنقاذ الوطني كشأن كل الحكومات السودانية أو معظمها عبر مسيرتها منذ الاستقلال وحتى الراهن اليوم. ففي العام 1985 وفي السادس من أبريل أطاح الشعب السوداني بالرئيس الأسبق جعفر نميري الذي حكم السودان 16 عاماً. وبعد عام واحد من الانتفاضة الشعبية في 6 أبريل 1985 ، شهدت البلاد انتخابات حرة فاز فيها حزب الأمة وتم تشكيل حكومة إئتلافية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي. في عام 1989 تم ائتلاف آخر بين حزب الأمة والجبهة الإسلامية القومية، وعلى إثره تم تعيين د. حسن الترابي المنتمي إلى الجبهة الإسلامية القومية في منصب نائب رئيس الوزراء. إلا أن الجبهة سرعان ما استقالت من الحكومة بعد أن دخل الصادق المهدي في محادثات سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان تم بموجبها اتفاق بين الحكومة والحركة الشعبية على وقف إطلاق النار، تبعه إلغاء قانون الشريعة وحل حالة الطوارئ، وإبطال الأحلاف العسكرية مع مصر وليبيا.
يقول الدكتور أبوبكر آدم الأكاديمي والخبير الإعلامي لـ(الصيحة)، إنه وبعد الخلافات التي دارت بين حزب الجبهة الإسىلامية وحزب الأمة والاتحادي الديمقراطي بزعامة السيدين (الميرغني- الصادق المهدي) جراء التهميش والإقصاء ثالوث التعميد والعزل، وهي التي ظل يواجهها الإسلاميون في ذلك العهد، بدأت الجبهة الإسلامية التخطّيط للانقلاب على الحكومة المدنية التي كان تشارك فيها قيادات الجبهة الاسلامية بقيادة قائدهم الروحي د. حسن عبد الله الترابي. وقد عرف حزب الجبهة الإسلامية في تنفيذه لكل المخططات التي يستهدفها بدقة متناهية، وكان الحزب قد عمد إلى إدخال العديد من عناصره في الكليات العسكرية انتظاراً لهذا اليوم. حيث كان الحزب يجري الكثير من الاستقطابات وسط الشباب المنضوين للكلية الحربية أو الذين كانت رغبتهم والدخول للكلية الحربية التي كانت وجهة ورغبة الشباب السوداني. وبحسب مراقبين اختلف بعضهم في الرواية التي تقول إن البشير كان أحد عناصر الجبهة الإسلامية الذين صهروا داخل المؤسسة العسكرية بغض النظر عن ذلك الخلاف، إلا أن البعض يشير إلى أنه قد تخرج في الكليات العسكرية في السنوات الماضية قبل حكم الانقاذ حوالي 150 ضابطاً برتب عسكرية متفاوتة، وفقاً للدفع العسكرية التي انتسبوا إليها عبر المراحل المخلتفة، وقد تم توزيعهم على الوحدات والفرق العسكرية المختلفة، وكان أقدم ضابط من هذه المجموعة هو العقيد عمر حسن أحمد البشير الذي وقع عليه الاختيار ليقود الانقلاب على الديمقراطية في يوم 29 يونيو 1989، وقد تم استدعاؤه من مناطق العمليات بغرب النوير قبل أن يلتف حوله ضباط “الجبهة القومية الإسلامية” داخل القوات المسلحة، وكان الترابي “الأب الروحي للمرحلة” يؤمن مع قادة الانقلاب بأنه لن يتمكن الإسلام في حياة العامة دون التمكين في السلطة.
ظروف متشابهة
وأرجع سيادة الفريق أول ركن محمد محمود جامع رئيس أركان القوات المسلحة، أول مدير لمكتب الرئيس البشير، ظروف البداية لحكومة الإنقاذ الوطني في الجلسة البرلمانية التي انعقدت في ليل 29 يونيو والتي وصف فيها الشريف زين العابدين الهندي حالة البلاد وقتها بـ(جنازة البحر) وقال “إذا أدوها لأي زول ما يقدر يكفنها”. هذه هي كانت الصورة الموجزة للبلاد في تلك الفترة، أما الشأن العام فيصفه جامع بأن الهزيمة النفسية وقتها للشعب السوداني وللجيش السوداني كانت كبيرة جراء الهزائم المتكررة.
وقال جامع: تلك الهزائم لم تكن إشارة إلى عدم كفاءة القوات المسلحة كأفراد أو قوات، بذات القدر ليتصدوا للمتمردين، موضحاً أن الانسحابات وقتها كانت لعدم وجود الذخيرة كما أن بعض الجنود كانوا بلا إمداد، وكانوا يجوبون الغابات بحثاً عما يسد رمقهم جراء الجوع حيث كانوا بلا مواد غذائية وهم يقاتلون في تلك الظروف القاسية. ويؤكد جامع أن البلاد كانت في حالة تردٍّ عام وكبير، حيث صفوف البنزين والخبز ذات الذي يحدث الآن، وأدى إلى زوالها، بجانب أن الكهرباء وقتها كانت قد فصلت عن العاصمة الخرطوم لأكثر من (15) يوماً بالاضافة لكل أمراض الأنظمة السابقة من تردي الخدمات الصحية وتردي الأداء في المؤسسات الحكومية ومرافق الدولة من ضعف الخدمات، وهذه قد أوصلت الناس لصورة إيمان قاطع بأنه إذا استمرت حالة البلاد بذات السوء. لذلك كله قال مدير مكتب المشير البشير إن القوات المسلحة أرادت أن تضع رغبات الواقع مع آمال الشعب فتحركت الفصائل المختلفة لاستلام السلطة وليس الإسلاميون وحدهم في الجيش، حيث كان الناس مستعدين لقبول أي جسم يأتيهم ليخلصهم من ذلك الحال البائس وكانوا مقتنعين بأنه لازم يحدث تغيير.
ظروف متشابهة
وأوضح محمد محمود جامع، إن الناس في الفترة الأولى كانوا كلهم مع الإنقاذ قلباً وقالباً، وقد وجدت دعما كبيراً جداً من الشعب السوداني بأحزابه المختلفة، لأنهم كانوا يرون أن الديمقراطية وقتها بتلك الصورة قد تنهي كل مقومات البلاد.
وأكد جامع أن نفس الظروف التي كانت ظروف بداية ومقدم الإنقاذ كانت هي ذاتها ظروف نهاية الإنقاذ، حيث شهدت البلاد عودة الصفوف في الخبز والبنزين وانهيار تام للعملة الوطنية والبنوك صارت خاوية لا عملة محلية ولا أجنبية وصعوبة المعيشة وانحصار الناس كل جهة في مجموعتها بالإضافة إلى أن الحلول كانت تصل لطريق مسدود مما جعل الناس يبحثون عن التغيير، كل هذه الأشياء مجتمعة أدت لانسداد الأفق مما أدى لانفجار ثورة ديسمبر، وما كان أمام القوات المسلحة إلا أن تضع الواقع موضع التنفيذ، بالإضافة للرغبة الكبيرة لكل أطياف المجتمع بمن فيهم النظاميون الذين كانوا يرون أنه لا يوجد مخرج بناء على الأسباب الكبيرة التي أدت إلى الانسداد.
إنذار الجيش
وبدأ بروفيسور حسن الساعوري أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية حديثه لـ(الصيحة) عن ظروف وأبعاد بداية حكومة الإنقاذ ونهايتها، ونحن نمر بالذكرى الثلاثين لها بالمذكرة الشهيرة التي رفعتها قيادة القوات المسلحة للحكومة المنتخبة تطالبها فيها بضرورة إبعاد الجبهة الإسلامية القومية من الحكومة، وذلك كان في شهر أبريل من العام 1989م، حيث هددت القوات المسلحة الحكومة المنتخبة بتقبل ما سيحدث منهم إذا لم تستجب الحكومة المنتخبة لمطالب الجيش. وقال الساعوري إن هذا الأمر كان إنذاراً شديد اللهجة من قِبل القوات المسلحة، الشيء الذي جعل حكومة الأحزاب تستجيب لمطلب القوات المسلحة وأسقطت بالفعل حزب الجبهة الإسلامية وقامت بإبعادها من البرلمان، وكان ذلك في بداية مارس ونهاية أبريل من العام نفسه، الشيء الذي جعل قيادات الجبهة الإسلامية يتساءلون بأن الحكومة الراهنة وقتها كانت حكومة منتخبة فلماذا يتدخل الجيش ويستجيب رئيس الوزراء، وكان وقتها هو الإمام الصادق المهدي لمطلب الجيش بطرد الجبهة الإسلامية من البرلمان والحكومة؟. هذا الأمر لم يفوّته قيادات الجبهة الإسلامية فقد دبّروا وخططوا لانقلاب عسكري بحسب الساعوري وهو الذي اكتمل ونجح في 30يونيو 1989م. ليستطرد بروف الساعوري ويستجدي الأسباب ليقول إن ما حدث اليوم بعد ثلاثين عاماً نفس الذي حدث في حكومة الديمقراطية المنتخبة قبل ثلاثين عاماً، فقد تدخلت أيضاً قيادة الجيش وأسقطت نظام الإنقاذ، وكأن قيادة القوات المسلحة أصبحت هي الكل في الكل في تاريخ السودان.
دعوات متعددة
وأضاف الساعوري أنه رغم ذلك، هنالك من يحتفل اليوم بهذا الأمر ويطلب حكومة مدنية، مؤكداً أن الكلام الآن عن الحكومة المدنية، مشيراً إلى أن التدخل العسكري في الحياة السياسية والمدنية في السودان صار أمراً لا يختلف عليه اثنان، مشيراً إلى أن الفرق في هذه المرة هو أن قيادة (قوى الحرية والتغيير) أنهم طالبوا الجيش صراحة لابد من أن يسقط حكومة الإنقاذ، ولكنه كان في الماضي أن التحرك كان يتم سرياً داخل القوات المسلحة، ولكن هذه المرة الدعوة صريحة من الأحزاب السياسية، فلماذا نفس الأحزاب الآن تطالب بإبعاد النفوذ العسكري، وهي التي دعت العسكر صراحة أن يتدخلوا ويسقطوا الحكومة، وهذا هو الرابط بين 30 يونيو 1989 و30 يونيو 2019 رغم أن الإسلاميين جاءوا للحكم عن طريق القوات المختلفة من المؤسسة العسكرية.