كثُر الجدل بشأن تشكيل الحكومة، وعلقت جميع الأطراف بالمشهد السياسي في نقاشات وسجالات كلما مضى يوم، تعمقت في ظل فراغ تنفيذي مع ظروف اقتصادية تتفاقم كلما استمر التأخير بكثرة التحضير أو التردد أو انتظار تسوية فروع الأزمة في شقها الخاص بوضعية السيادي ونسبه، وربما الأحكام العامة الضابطة لصلاحياته أو المجلس التشريعي المتجاذب بين طلب كونه خالصاً بأغلبية لقوى إعلان الحرية والتغيير أو أن يكون إفساحاً لقوى أخرى غير محددة الهوية أو النسب؛ وأغرب ما في هذه الوضعية، أن شأن الحكومة وباتفاق الجميع يتم الالتقاء فيه على حكومة من الوزراء التكنقراط غير المسيسين أو المقدمين تحت بند تفويض حزبي، مما ينفي ابتداءً وجود مشكلة تستدعي ربطه بالمسار السياسي الموازي لمجمل التسوية، عدا خيط رفيع في تفاهمات سابقة بين المجلس العسكري وقوى الحرية يجب ألا يشكل قضية طالما أن الوضع بجملته يمكن على الأقل البدء به بعد معالجة منصفة.
تشكيل الحكومة يصنع وجوداً معلوم الملامح لسلطة على الأرض محايدة تخدم كتلة أغلبية الشارع من عموم المواطنين والسودانيين الذين ليس من بين شواغلهم من سيكون في السيادي أو من سيصعد مرتقياً للبرلمان؛ فهناك مواطن يبحث عن خدمات ودولة تتدبر شأن معاشه وأمنه، وهناك أوضاع بحاجة لشغل دبلوماسي وترتيب أمور عديدة في أمر تحدث السودان للخارج من خلال مؤسسة وزارة الخارجية التي تحولت لقسم للمراسم ناهيك عن قضايا التعليم وضياع عام دراسي من طلاب الجامعات والوضع المرتبك حول التعليم العام، فضلاً عن مهددات أمنية تتطلب قدراً من اليقظة وإعادة التنظيم بعد حالة من السيولة في الوضع العام لعدة أشهر.
الظرف الاقتصادي وتسيير الأمور حتى الآن يعتمد على نهج الجهد الخاص للمجلس العسكري و(تصرفه)، وهذا يتم دون تفعيل مقدرات البلاد في أذرع الصناعة والصادر والزراعة والمتاح من إمكانيات كبيرة تحتاج ابتداء لبرامج رفع كفاءة وإزالة متاريس الوضع الثوري الذي بالضرورة يعطل تلك الماكينات ويمنع أي تواصل قديم أو جديد مع السوق الإقليمي والعالمي، كما أنه يجمد قليل الاستثمارات هذا إن لم يتسبب في خروجها وانتقالها لبلدان أخرى، والمحور الاقتصادي تحديداً وعينا يجب أن يكون الدافع الملح بتعجيل تشكيل للحكومة ضمن أسباب أخرى موضوعية لا تقل أهمية.
حالة الانقسام والاستقطاب بين المكونات السياسية لا يشير إلى إدراك خطورة هذا الفراغ؛ فالتغيير الذي تم في 11 أبريل وعلى ارتكازه لدفوعات سياسية محضة لكن زاوية قائم فعله ارتكزت على الخروج بالبلاد من أزمة تهدد وجودها جراء ظروف تطلبت (نفض) كل الواقع المؤسسي بالبلاد وابتدار معالجات شاملة من حرب على الفساد وليس انتهاء بتحسين مستوى الإدارة الذي وبحسب البيان الأول للتغيير تسبب في إهدار موارد البلاد وإهلاكها؛ وبالتالي، فإن تلك الأسباب الآن تضاعفت لحالة التوهان العام التي ربما جعلت الأوضاع أسوأ مما سبق إن ظل الجميع في وضعية عدم الانتباه ولزوم الفعل السالب بإضاعة الوقت في الكلام والمماحكات.
وأما الذين يتحججون بالسلطة المدنية، فإن توجه تشكيل حكومة لا يضاد هذا الموقف أو يجهضه خاصة أن متاحات المدنية في التشكيل أصيلة ومثبتة؛ كما أن هذا الشعار أصلاً يتحقق بالجريان في شرايين الأرض بنشاط المجلس التشريعي والفعل السياسي المنزوع الأصفاد؛ وبنشاط الجميع في ظل ممارسة سياسية وديمقراطية تنفتح في المنابر ونحو الجمهور تراقب أداء الحكومة وتقوّمها بل وتعينها ببرامج للفعل والإنجاز؛ وبالتالي فالتذرع بهذه الحجة لرفض تشكيل وزارة أو تكليف سودانيين خبراء غير منتمين حزبياً سيبدو أقرب ما يكون للتعسف وخلط الشعارات وتوظيفها في غير محلها؛ فالحكومة وبعيدًا عن التعريف والإصلاح للناس؛ تخدمهم والسياسة للأحزاب.