سراج الدين مصطفى يكتب: مُراجعات في سيرة محمد وردي السياسي!!
نقر الأصابع
سراج الدين مصطفى
مُراجعات في سيرة محمد وردي السياسي!!
(1)
لم يكن الراحل محمد وردي مجرد مغن عادي .. فهو كان بحراً للعلوم ومثقفاً رفيع المستوى وصاحب ثقافة موسوعية ولعل سر ذلك الإلمام المعرفي الكبير يكمن في خلفيته كمعلم صاحب تجربة عريضة في التدريس قبل أن يكون مبدعاً متجاوزاً ومختلفاً من لحظات ظهوره في الساحة الفنية في أواخر خمسينيات القرن الماضي .. وظل محمد وردي نموذجاً للفنان المستنير ولم ينفصل عن قضايا وهموم شعبه.. ولعله واحدٌ من أجمل الذين تغنوا للوطن عبر سلسلة طويلة من الأغنيات التي تعبر عنه كفنان وطني.. ولعلك ذلك المنحى في الغناء نتج عن خلفية تفهم في السياسة وبواطن الأمور .. كما أنه عانى من الاعتقالات في السجون بسبب مواقفه الوطنية والسياسية.
(2)
وشهدت ألحان وردي في فترة الستينيات تطوراً كبيراً كما توسعت علاقاته بالأدباء والشعراء الشباب والمثقفين الذين أصبحوا يتصلون به كلما وجدوا قصيدة جميلة ، ويذكر هنا أن الناقد محمود محمد مدني أعطى وردي قصيدة (الـود) لعمر الطيب الدوش عام 1965م ومكثت عنده خمس سنوات حتى أطلقها بلونية جديدة بعد أن قام بتوزيعها في القاهرة.
(3)
على الجانب السياسي، وبالرغم من تحوله عن تأييد عهد عبود، لكن علاقته استمرت برموز ذلك العهد على المستوى الشخصي .. فطلعت فريد مثلاً كان يحضر شخصياً بروفات (يقظة شعب) يومياً، وتساءل..؟ لماذا لا نجد مدخلاً لعبود في النشيد، رد وردي بأنه ليس الشاعر.. وهنا تدخّل مرسي الذي قال له إن عبود لا يمكن أن يدخل النشيد الذي يتناول التاريخ فقط، ولا يتضمّن الشخصيات المُعاصرة.
(4)
وعندما غنى وردي نشيد (الاسـتقلال) عتب عليه المقبول الأمين الحاج عضو المجلس وكانت تربطه به صداقة لعدم الإشارة الى عهدهم، والنشيد الذي يقول مطلعه .. اليوم نرفع راية استقلالنا .. ويسجل التاريخ مولد شعبنا .. يذكر أبطال السودان ، ويركز على الانتماء العربي الأفريقي للبلاد بصورة قومية شاملة.
(5)
نوفمبر 1961م يعتبر علامة أخرى فارقة في علاقة وردي بنظام عبود، ففي ذلك الوقت بدأت الخطوات التنفيذية لتطبيق اتفاقية مياه النيل ، التي مهدت الى قيام السد العالي ، وهو ما يتطلب ترحيل أهالي حلفا، الحكومة اقترحت ثلاثة أماكن كخيار أمام الناس: إما منطقة حوض السليم في دنقلا، أو جنوب الخرطوم، أو حلفا الجديدة . معظم أهل حلفا اختاروا حوض السليم خياراً أول، ثم جنوب الخرطوم كخيار ثان ، وأخيراً حلفا الجديدة.
(6)
وأرسلت الحكومة وفداً برئاسة طلعت فريد الذي قاد الجانب السوداني في المباحثات ليخبر الأهالي بذلك .. وكان أن انفجر الغضب الشعبي وتم حصار الوفد، وقام النوبيون في الخرطوم بتنظيم اجتماعات في منزل وردي ، ومنازل آخرين أمثال : جمال محمد أحمد وزير الخارجية فيما بعد ، وأخيه محجوب رجل الأعمال ، ومحمد توفيق ، نتجت عن هذه الاتصالات الدعوة الى المظاهرات التي تمت في نوفمبر 1961م.
(7)
وكان أول تحد شعبي للنظام العسكري ، في تلك المظاهرات عرف وردي مُسـيّل الدموع لأول مرة ، وتم اعتقاله مع آخرين ، وأخذوا الى مديرية الخرطوم ، وقرروا ألا يتحدثوا باللغة العربية إطلاقاً في التحقيق . وبالفعل مكثوا عشرة أيام ، ويذكر أنه كان يستجوب وردي ضابط يدعى عبد المنعم جاويش .. ويقول له: ((يا محمد … أنت مُدرِّس لغة عربية ، كيف تقول إنك ما بتعرف عربي!؟)) … وكان ردهم أن يحضروا إليهم ضباطاً نوبيين ليتفاهموا معهم بالرطانة.
(8)
وفي النهاية وبعد الفشل في استجوابهم، عملوا لهم محكمة صورية ، وحكموا على وردي بحسن السير والسلوك لمدة عام ، وأهم من ذلك أن الحكومة التي كانت تحتضن وردي .. أوقفت أغنياته من الإذاعة لمدة شهر كامل، كان أثر هذه التجربة على وردي كبيراً وعلّمته أشياء أساسية، منها أن الديكتاتورية يمكن أن تعمل أي شيء ، مثل ترحيل أناس من منطقتهم رغماً عنهم ، ومنع فنان من الغناء خدمة لأهدافها مهما كانت شعبيته.