“ولادة الهنا (2) .. !”

الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى”.. مصطفى محمود!

لا مفر للإنسان – في هذه الدنيا – من الرضوخ لارتفاع بعض الأسوار وضيق بعض الأطر، لكنه يبقى دوماً محكوماً بالأمل. والمؤمن حقاً هو الذي يسعى قبل أن يتمنى، ويجتهد قبل أن ينتظر، وإن عرقلته المصاعب، وإن حاصرته المآزق، فهو يظل مؤمناً بأنه سوف يحصد النجاح – بإذن الله – ولسوف ينعم بالبركة. ولعل هذا كان لسان حال ذلك الصبي الغض – الذي أصبح فيما بعد د.”محجوب حامد الكدقري” – وهو يسمع موافقة والده على طلبه بأن يتركه يذهب إلى المدرسة في الصباح، على أن يعاونه بأعمال الزراعة في فترة العصر من كل يوم ..!

الالتزام بعهده كان يستوجب التضحية بحصص الدراسة المسائية الإجبارية، وأن يجلد بالسوط كل يوم لغيابه دون أن يذكر لأساتذته سبباً، وأن يقطع المسافة من القرية إلى المدرسة في الصباح، ومنها إلى القرية بعد الظهر، سيراً على الأقدام، دون شكوى أو تذمر أو حتى شعور بالغضب. حتى صدرت نتيجة اجتياز المرحلة المتوسطة فكان ترتيبه السادس على كامل الإقليم الشمالي، الأمر الذي مكَّنه من الالتحاق بأول دفعة لمدرسة “خور عمر” – الثانوية القومية النموذجية – التي أسسها الرئيس الأسبق “جعفر محمد نميري” ..!

تباينت انفعالاتي وأنا أقرأ في صفحات الكتاب من الضحك مع مواقف صور فيها الكاتب مواجهة القروي لبعض مظاهر المدنية، إلى التأثر عند قراءة كلمات كتبها الكاتب – الطالب آنذاك – على ورقة مطوية بعنوان “سري للغاية”، لتحفيز نفسه على الاجتهاد وشحذ همته للتفوق، جاء فيها: “العنوان: الموقف صعب. إلى أهلي البسطاء الفقراء، خاليي الجيوب والبطون، مرفوعي الرأس والهمة، إلى أهلي الذين تفعل بهم النزلة فعل الإيدز بالشعوب الأخرى، إن أكبر ما أقدمه لكم هو نجاحي، نجاحي، نجاحي، فإن لم أنجح فيا للتعاسة ويا للخيبة ويا للوضاعة، فلتدك حصون الامتحانات، ولتنهار جبال البوكسينق، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. محجوب حامد، 15 ديسمبر، 1985م” ..!

فماذا كانت النتيجة؟!، جاء ترتيب صاحب تلك الكلمات الحادي عشر على السودان في امتحان الشهادة السودانية، وتحقق حلمه بدخول “كلية الطب بجامعة الخرطوم”. وقد لاحظتُ أن الحديث عن تفاصيل سنوات الدراسة بمدرسة “خور عمر الثانوية القومية النموذجية” قد أخذ جزءاً مهماً من الكتاب، حتى يكاد القارئ يهتف كيف لتجربة بهذه القوة والجدارة والمثالية أن تتوقف بعد بضع سنوات، وبماذا كان يفكر المسئولون عن قرار إيقافها بوزارة التربية والتعليم آنذاك ..؟!

في هذا الكتاب دروس باهظة الثمن وعبر وحكم لطلاب الجامعات الذين يتقاعسون عن السعي إلى التفوق في ظل تفرُّغهم للدراسة، وإنفاق أسر بعضهم عليهم بلا حساب أحياناً. بينما يقدم د.”الكدقري” وشقيقاه “حسن” و”عوض” – عبر مواقف عصامية مؤثرة  يذكرها في كتابة – مثالاً يحتذى في بر الوالدين، والإحساس العالي بالمسئولية والواجب، وإنكار الذات، والولاء المطلق لمصلحة الأسرة، وإيثار الآخر، وبذل التضحية بلا منِّ ولا أذى، ونكران الذات، والارتقاء بها نحو الفضائل، والسمو بها عن الكثير من الزلات والصغائر ..!

وفي هذا الكتاب رحلة تلميذ سوداني عرف معنى العصامية منذ الطفولة، وأدرك  قيمة الطموح والمثابرة وهو لا يزال صبياً غضاً، ولم يستنكف أن يعمل مزارعاً أو بائعاً في السوق وهو الطالب في كلية الطب بجامعة الخرطوم. ثم ذاق حلاوة النجاح بعد التعب، والراحة بعد الرهق. والأهم من ذلك كله أنه لم يفقد بساطته وسماحة نفسه في أوج المنافسة المهنية، ولم ينس جذوره التي يعتز بخيرانها وطينها في عز ازدحام الخرطوم ..!

 هي تجربة إنسانية ثرية وجديرة بالوقوف، والتأمل والتدبر، ومن ثم الاحترام والتقدير. ولا شك أن قراءة هذا الكتاب كانت لحظات سائغة من الجمال والجلال ..!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى