إبراهيم حجازي.. رائد البلاستيكا!!
يستطيع تقمص الشخصيات على اختلاف تكويناتها
(1)
كان المسرح ولا يزال هو النقطة التي يبدأ منها عادة انطلاق الخطوة الأولى نحو الثقافة وتطوير الذات والمجتمعات للوصول الى حال أفضل .. والمسرح ليس مجرد وسيلة ترفيهية وإنما يتخطى دوره ذلك .. ففي فترات عظمته جاهد كتابه وممثلوه ومخرجوه في اكتشاف نواحي الجمال فيه .. ففن المسرح يعتمد في جوهره على حصيلة المعرفة في شمولها العام ولقدرة الإنسان على الاستكشاف والتعجب والتأمل, ويظل التمثيل هو مرآة المجتمع وهو فن تبسيط التاريخ والحياة للمشاهدين وتعليمهم وتبصيرهم بحياتهم بشكل يتقبلونه من خلال قصة من الحياة اليومية.
(2)
كل تلك المعاني الواسعة لو حاولنا أن نتوغل في تفاصيلها ومحتوياتها نجدها تتمثل وتتجسّد في شخصية المسرحي الراحل الأستاذ إبراهيم حجازي الذي انتقل للرفيق الأعلى يوم السبت الخامس والعشرين من فبراير من عام 2018.. ويعد حجازي من قادة التطوير والتنوير في المجتمع .. واستطاع أن يؤسس لمدرسته في التمثيل لأنه كان يتمتّع بجاذبية طبيعية كانت مدخله لقلوب الناس لأنه يستطيع تقمص الشخصيات على اختلاف تكويناتها في العرض بسبب المرونة الجسدية أو ما يُعرف (البلاستيكا) .. وهي القدرة على تخيل الزمان والمكان والتماهي مع مفهوم الشخصية وتكوينها.
(3)
الممثل الراحل ابراهيم حجازي المولود في حي البقعة بمدينة أم درمان العام 1943 وتلقى كل مراحل تعليمه بمدارس الأقباط فحفظ القرآن الكريم وكل معلقات الأدب العربي القديم.. حيث كان يعتبر مرجعاً مهماً من مراجع الشعر العربي وهو كذلك واحدٌ من مؤسسي المسرح بالسودان في تأسيسه الزماني والمكاني .. كما يعد صاحب بصمة واضحة في الدراما التلفزيونية والإذاعية .. ونسبة لنبوغه المبكر في هذا المجال قدم أول أعماله على خشبة المسرح العام 1955 وهو لم يزل في سن الثانية عشرة وحمل عنوان المسؤولية.. وذلك يؤكد بأن مبدعنا الراحل إبراهيم حجازي حمل مسؤولية المسرح على عاتقه وهو لم يزل صبياً.. وذلك يؤكد بجلاء تطوره اللاحق في مجال المسرح والدراما عموماً.. وذلك النبوغ الباكر لموهبة الأستاذ حجازي جعله يلتحق بمعهد الموسيقى والدراما لتطوير قدراته وصقلها بالعلم.
(4)
عمل الممثل الراحل ابراهيم حجازي والتحق بها منذ إنشائها في العام 1963 ورافق كل الأجيال التي صنعت تاريخ الإذاعي الباهي وهو يُعد ركناً أصيلاً في (هنا أم درمان).. وكان صوته الفخيم يطل من خلالها ليصل أسماع الناس ووجدانهم ليسكن فيها كمُبدع أصيل يقترب من الناس وقضاياهم, لذلك ظل محبوباً في كل الأوساط التي عمل فيها وترك فيها أثراً كبيراً لن تمحوه الأيام.. ويُعد حجازي من الجيل الثاني من الفنانين السودانيين الذين درسوا الدراما في أكاديميات متخصصة فكانت مُساهمته كبيرة في تكوين وتشكيل الفرق المسرحية وتعد مسرحية مدير ليوم واحد من أبرز مسرحياته وظلّت تُعرض في المسارح لمدة طويلة بسبب رغبة الجمهور في استمرار عرضها.. كما قدّم مسرحيات عديدة نذكر منها (ضريح ود النور).. (سنار المحروسة).. (نبته حبيبتي).. (المك نمر) والعباس وغيرها من المسرحيات التي كانت ملمحاً أساسياً من المواسم المسرحية.. والتاريخ العريض للأستاذ إبراهيم حجازي مع المسرح والدراما جعله أيضاً مَهموماً بفكرة التوثيق.. فكان متحف إبراهيم حجازي حاوياً وشاملاً لكل تاريخ المسرح السوداني وليس متحفاً شخصياً فقط.
(5)
لم يكتفِ إبراهيم حجازي بالدراما المسرحية, بل كان مشاركاً أساسياً في العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية.. حيث شارك بجانب رفيق دربه الفاضل سعيد في مسلسل (موت الضأن) ومسلسل طائر الشفق الغريب للشاعر والدرامي هاشم صديق وكذلك مسلسل السرف.. كما كان له اهتمامٌ خاصٌ بالتمثيليات والبرامج التلفزيونية المُختصة بتوجيه الأطفال.
(6)
ظلّ الأستاذ الراحل حجازي وفياًّ للمسرح رغم تقدُّمه في العمر ورغم مناوشات المرض لكنه لم يركن أو يستكين.. كان يهزم الأوجاع بالكتابة.. يجد نفسه في تفاصيلها.. يسكب الحبر على الورق.. فكانت آخر مسرحياته هي (آخر الأسوار) ولعلها كانت تَرميزاً عَميقاً لفكرة الرحيل.. وصحيح أن القبر هو آخر الأسوار للجسد ولكنه ليس آخر الأسوار للروح.. لأنّ روح حجازي تدمن التحليق في عوالم بعيدة لا يراها إلا أصحاب البصيرة النافذة وإبراهيم حجازي كان صاحب رؤية وبصيرة ترى بعيداً.