نقر الأصابع
سراج الدين مصطفى
مأساة مصطفى عبد الرحيم
(1)
شخصياً ـ على قناعة مُكتملة الأركان أن للشعب السوداني (غربالاً ناعماً) لا يمر من خلاله إلا صاحب العطاء المتميز والمختلف، ذلك (الغربال الناعم) يمثل لجنة وجدانية لتحديد المعايير والمُواصفات للمُبدع دون أي تعريفات علمية، فهو شعبٌ يعرف كيف يُفرِّق ما بين الغث والسمين، ويتقن تماماً اختيار ما يُناسبه وما يبقى في وجدانه وذاكرته دون أيِّ إملاءات، ولو توقّفنا في أغنية بقامة (هوج الرياح) الشهيرة بمقطعها الأول (هات يا زمن) ستجد أنها أغنية محفورة في ذاكرة الناس أجمعين، لأن أحمد الجابري تناول نصاً منوّعاً من حيث تركيبة المفردات ذات الجرس الإيقاعي المختلف والمتنوع، قصيدة احتشدت بالثراء من حيث مفردتها الشعرية ومفاهيمها العامة.
(2)
شكّلت أغنية (هوج الرياح) بعثاً جديداً في الأغنية السودانية، وذلك لأنها تميزت بتنوع في جملها الموسيقية وتحرّكت ما بين إيقاعات مختلفة هي (الرومبا ـ المامبو وعشرة بلدي) وتلك الانتقالات السلسة ما بين الإيقاعات منحت الأغنية قيمة الرشاقة والانسياب، وإن كان أحمد الجابري عبقرياً على المستوى اللحني والموسيقي في تلك الأغنية ــ وكل الأغاني ـ فإن عبقرية الشاعر مصطفى عبد الرحيم هي أيضاً ليست محل شك، فهو شاعرٌ تمثلت فيه خاصية التجديد والتحديث في مفردة الأغنية فيما يخص الشجن والحزن، وربما دفقة الحزن الطاغية على أشعاره هي لموقف حياتي عاشه الشاعر وبسببه انزوى في (فداسي الحليماب).
(3)
كان الشاعر مصطفى عبد الرحيم كسائر أبناء جيله من أبناء حي العرب، حَقّقَ شُهرة اجتماعية كبيرة ونجاحاً باهراً ليس كشاعر فحسب، بل كـ(لاعب كرة) ماهر في نادي المسالمة الرياضي، ولكن رغم الشُّهرة الكبيرة والمكانة الاجتماعيّة البارزة، كان مصطفى عبد الرحيم, على النقيض من المُبدعين الذين لهم ميولٌ للشهرة والأضواء وحياة الصخب وإثارة الجدل، فهو كان يتّسم بشخصية هادئة ورزينة فيها الكثير من الحياء والتهذيب ويحب الانزواء، ولعل تلك الخَصائص جعلت منه قارئاً نهماً للكتب، كما جعلته عازفاً بارعاً على (آلة العود)، وتلك الميزة منحته القدرة على الاستكشاف الموسيقي في قصائده ببعدها الإيقاعي ومدى مواءمتها للغناء والتلحين، لذلك تميّز شعره بقوة الجرس الموسيقي الملتزم بقواعد الشعر.
(4)
التجارب الشعرية لمصطفى عبد الرحيم بدأت باكراً وكان ذلك في العام 1957بقصيدة جنة ونار:
قلبي يا محتار ليه هويتم ..
شفت جنة ونار كان نصيبك ايه..
قلبي يا مفتون ليه هويت أزهار ..
ليه عشقت عيون في العيون أسرار..
تلك القصيدة تغنى بها المطرب (حسن الجلال) وهو فنان لم تكتب له شهرة وتغنى الجلال أيضاً من كلمات مصطفى عبد الرحيم بقصيدة (ليل السهاد)، تلك الأغاني كحال مطربها لم تجد الانتشار، ولكن مصطفى عبد الرحيم كان على موعد مع الشهرة وعالم النجومية حينما تغنى له صديقه أحمد الجابري بأغنية (هوج الرياح):
هات يا زمن/ جيب كل أحزانك/ عال جيب المحن
طول يا أسى/ وكتر ينابيع الشجن
جرعني كأس من لوعة من آلام
ما المحبوب خلاص/ خلاني ليك الليلة راح
خلّف في قلبي الحسرة/ والشوق والجراح
خلى النواح/ فات قلبي شمعة
وحيدة في هوج الرياح
خلاني ليك أنا يا زمن
عبر تلك الكلمات الرقيقة والمليئة بالحزن والسهاد عبر مصطفى عبد الرحيم الى عالم النجومية وأصبح معروفاً في الأوساط الفنية والاجتماعية، لأن الأغنية نجحت نجاحاً كبير وتلقفها المستمع السوداني بكل حب.
(5)
الأغنية الثالثة التي وجدت رواجاً كبيراً في مسيرة الشاعر مصطفى عبد الرحيم، هي أغنية (غرام الروح) التي لحّنها وتغنى بها الراحل زيدان إبراهيم، وبحسب الصحفي الراحل (داؤود مصطفى) الذي كان مقرباً منه فإن زيدان (بعدها رفده مكتبة الاغنية السودانية بالعديد من ألحانه، وكانت معظم القصائد التي لحّنها للشاعر عبد الوهاب هلاوي وعددها أربع اغنيات بتتبدل ــ فراش القاش ــ عشان خاطر عيون حلوين ــ لو تعرف اللهفة، إضافة الى العديد من الأغنيات التى شنف بها آذان عشاقه، ولعل ابرزها أغنية “غرام الروح ” للشاعر الراحل مصطفى عبد الرحيم).