بالمنطق
صلاح الدين عووضة
طيرة!!
أي طائر..
وكنت أُسال – إلى وقتٍ قريب – عمن كنت أتمنى أن أكونه لو لم أكن أنا..
سؤال طرورة من بعض الطيور..
من بعض طيور البشر؛ على سبيل المداعبة..
فكنت أرد: أنا؛ ولا أحد سواي..
ولكني بدلت رأيي الآن؛ فأنا ليتني لم أكن أنا… بعد أن لم أعد أعرف من أنا..
سيما بعد أن شجعني على ذلك شيئان..
أو شيءٌ وطائر؛ علماً بأن الطائر هو مصدر إلهام من جعل منه شيئا..
من جعل منه أمنية؛ وهو شاعرٌ شايقي..
فقد تمنى لو لم يكن هو؛ رغم إنه أُوتي من ملكة الشعر ما أطار اسمه..
وجعله يطير – بجناحي شهرة – بين الناس..
وإنما طائرٌ يطير بين أغصان الشجر – وفي جو السماء – ولا يحمل هماً..
لا همَّ ثورة ضاعت من بين أيادي الثوار..
ولا همَّ ثروة ضاعت بين أيدي من أضاعوا ثورة الثوار هؤلاء؛ وثروتهم..
ثم يسعون الآن لاسترجاع ما (طار) منهم..
بعد إحساسهم بأنهم ضاعوا؛ وضاع منهم كل شيء..
ولا أدري في أي زمان (أطار) شاعرنا أغنيته ذات الأمنية الطائرة هذه..
فما من زمانٍ أنسب – أو أوجع – من زماننا هذا..
والشيء بالشيء يُذكر؛ والحديث ذو شجون طائرة بين الخواطر..
فصباح الأمس كنت أرقب طائراً سعيداً..
كان يغني… ويمرح… ويسرح؛ وكأنه تعاطى شيئاً مما يجعل العقول تطير..
فيفعلون – من طارت عقولهم هذه – مثل فعله..
ولو إلى حين؛ أي لحين أن يطير منهم التأثير الفرائحي هذا من تلقاء نفسه..
أو بفعل أثرٍ خارجي؛ بفعل فاعل..
المهم؛ تمنيت – في لحظة – أنْ لو كنت ذاك الطائر… لو كنت طيرة..
إذن لما أرهق ذهني راهنُنا هذا؛ ولا أنا أرهقته به..
وكانت الأمنية هذه لا تزال تطير داخل عقلي حين طرت إلى الجزار..
فقد اشتهيت لُحيمات يُقمن صلبي..
ففوجئت به يكاد يطير فرحاً كما طائري ذاك؛ ويترنم بأغنية كلها فرح..
ومن مقاطعها: ما ليك أمان يا ذا الزمان..
وعجبت؛ كيف لمواطن أن يكون بمثل هذه البهجة في ذي الزمان؟..
وقلت: لعله تعاطى بعضاً مما يجعل العقل يطير..
وخلال تجهيزه طلبيتي – وهو يدندن – جاءه ما أطار منه كل شيء..
أطار منه رأسه… وأغنيته… وفرحه..
وكان دفتراً ضخماً يحمله أحد اثنين مُلحِمَيْن كما العجل المعلق أمامه..
اقتحما عليه محله مُرعِدَيْن: الحساب يا معلم..
وأثناء انشغالهم – ثلاثتهم – بالحساب انشغلت أنا بمراقبة رفيقين..
وكانا كلباً وقطاً؛ يشمشان عند مدخل الجزارة..
ثم فُزعنا – على حين فجأة – فزعاً شديداً؛ أنا… والقط… والكلب..
فقد انفجر الثلاثة صارخين صراخاً مخيفاً..
ودام الصراخ لدقائق؛ ثم غادر المُلحمان يتأبطان دفترهما الملحم هو نفسه..
وانتظرت أنا لُحمياتي لأغادر بهن..
ولكن ما كان ينتظرني شيءٌ أشد إفزاعاً مما كان يجري أمامي قبل قليل..
فقد جُنًّ الجزار؛ وتبدل حاله من حالٍ إلى حال..
وطفق يرمي بكل ما وقعت عيناه الحمراوان عليه؛ مما في متناول يديه..
وخفت أن يرميني أنا نفسي؛ فتراجعت..
ثم أخذ يسب – ويلعن – صائحاً: انعل أبو ده زمن ياخي..
وتحقق له ما كان يصدح به عند دخولي عليه:
ما ليك أمان… يا ذا الزمان..
ثم وقعت عيناه – أيضاً – على الحيوانين اللذين كنت انشغل بمراقبتهما..
علماً بأنهما لم يهربا رغم ما أصابهما من فزع..
فالجوع كافر؛ وهو الذي أبقاهما في مكانهما… أملاً في أن يحظيا بلُحيمات..
فرمقهما بعينين صارتا في لون ما يحيط به من دماء..
ثم صاح: يا ريت لو الواحد كان كلب.. ولاّ كديس… ولاّ حتى فِرَّة ذاته..
والفِرَّة – لمن لا يعلم – طائرٌ أشد طرطرةً من بقية الطيور..
وممن يُوصف بأنه طيرة من البشر..
وبعد أن سكت عنه الغضب قليلاً قلت له: سبحان الله؛ توارد خواطر..
وحكيت له أمنيتي الصباحية بأن أكون طيرة..
فضحك – كسابق عهده من قبل دخول المُلحمين عليه – ثم (فرَّ) أسنانه..
حين أضفت هذه العبارة:
أو فِرَّة ذاته!!.