18 يونيو2022م
مصطفى سيد أحمد، مشروع حياتي
التمعُّن في تجربة مصطفى سيد أحمد، هو نوع من التحليق والتحديق في عوالم تحتشد بالكثير التكوينات المغايرة من حيث البناء الفكري والجمالي، لأن مصطفى سيد أحمد، لم يكن فناناً مطرباً محدود في جغرافيا الشعر والموسيقى والتأليف الموسيقي واللحني، ولكن مصطفى أصبح كائناً معتدياً على الكثير من الأبواب التي ظلت عصية، لذلك فهو أقرب للفنان المفكِّر الذي يمتلك مشروعاً متكاملاً ووافياً للكثير من المتطلبات الروحية والشعورية والوجدانية، لذلك التمسُّك بتجربة مصطفى هو نوع من التمسُّك بمشروع حياتي يرتكز على توفير القيمة الأساسية للإنسان، ومن الظلم في تقديري أن نَصِف مصطفى بأنه فنان المثقفين أو تنميطه في خانة اليسار، لأن غنائية مصطفى أكدت أنه وطن يسع الجميع بلا طبقات أو موازانات، لذلك وجدنا أنفسنا وبالبديهة ننحاز لهذا الدفق الشعوري البديع، لأن مصطفى استلف ألسنتنا وأصبح ناطقاً رسمياً بحالنا وهمومنا وتطلعاتنا.
لن أجد توصيف أقرب لرحيل (مصطفى) إلا رحيل القائد (جون قرنق)، الذي غابت بغيابة الكثير من الأحلام والتطلعات المشروعة والعدالة الاجتماعية التي كان يريد تنزيلها على أرض الواقع، وإذا كان (جون قرنق) قائداً سياسياً وملهماً للكثيرين الذين فجعوا بغيابه، يظل مصطفى في حالة أقرب للتوازي والمعادلة مع جون قرنق، من حيث القيمة الروحية والقدرة على الإلهام، لذلك كانت الفاجعة الكبرى عند الرحيل، لأن أمثال مصطفى سيد أحمد رحيلهم يمثِّل رحيل الكثير من القيم الإبداعية ذات الجذور المتأصلة في دواخلنا.
صحيح أن مصطفى سيدأحمد، لم يكن هو الفنان الذي وضع لبنة الغناء الأولى ولكنه كان امتداداً جمالياً للعديد من الأسماء التي ساهمت في صياغة وجداننا السماعي وغرست فيه الغناء المعافى والطاهر، ورغم ذلك أحدث مصطفى طفرة هائلة على مستوى التفكير في شاكلة الغناء وإن كان البعض يعتبره مجدِّداً من حيث الطرح الجديد في المفردة الشعرية التي اتسمت بالحداثة والتجديد ولعله -أيضاً- يعتبر رائداً في إدخال الرمزية في الشعر والغناء وإن سبقه على ذلك محمد وردي في أغنية (الود) التي تعتبر الشكل الحداثي الأول والرمزي على مستوى الغناء السوداني الذي اتسمت مفردته في معظم الأوقات بالمباشرة والعادية، ومصطفى بحسب خبراء الموسيقى لم يحدث تغييراً هائلاً على مستوى التأليف الموسيقي والألحان ولم يكن أثره مثل محمد الأمين وإبراهيم الكاشف الاذان جاءا بأشكال موسيقية جديدة لم تألفها الأغنية السودانية حيث كان محمد الأمين حاضراً ومجدَّداً عبر أغنيته (شال النوار)التي تعتبر فتحاً جديداً تطاول فوق جدار العادية.
تعالت ظاهرة مصطفى سيد أحمد في أعقاب رحيله وتنامت بقدر مدهش، حيث وجد من الاحتفاء مالم يجده من قبله، ولكنه في تقديرنا كلنا يستحق أن نقف عنده متأملين ومتدبرين ما أحدثه من تجديد وتطوير على كل الأصعدة الفكرية والموسيقية، ومنذ رحيل مصطفى سيد أحمد، الذي وصلته إلى ثلاثة عشر عاماً، أسهب الجميع في دراسة تفاصيل تجربته الغنائية وكتبوا فيها ما كتبوا وقالوا فيها الكثير ولم يترك الجميع جزئية في حياته إلا وتطرَّقوا لها، وخلال الأعوام التي تلت رحيل مصطفى كانت كل الصحف تقريباً تصدر ملفات خاصة عنه وظل يوم 17/1 هو اليوم المخصص لتلك الملفات، بل أصبح ذلك اليوم وكانه يوم للبكاء على مصطفى سيد أحمد، والأغرب في هذا اليوم تحدث أشكال غريبة من أشكال استدعاء الحزن على مصطفى، حيث يقيم البعض صيوانات عزاء في منازلهم لتقبل العزاء وصيوانات العزاء تلك أصبحت ظاهرة عادية جداً في كل عام.
في تقديري الخاص لم يتبق شيء عن مصطفى سيد أحمد لم يكتب عنه وتلك الملفات تناولت كل شيء حيث كتبوا لنا عن آخر حوار وعن آخر أغنية وآخر قصيدة لم يكمل تلحينها وعن آخر مكالمات وآخر وآخر وآخر وآخر لا حصر لها ولا آخر، ولكن بتقديري أن تلك الأشكال تخصم من تجربة مصطفى ولا تضيف له وتجعله في خانة التكرار الممل الذي يتسبب فيه بعض المثقفاتية والذين يضعون مصطفى وكأنه رمز لليسار وما شابه ذلك من إدعاء، ولهذا نقول لهم سادتي إن مصطفى سيد أحمد، الآن لا يحتاج لمثل الذي يحدث سنوياً، ولكنه يحتاج للدعاء وليس الأدعياء.