15 يونيو2022م
أطلق العنان لفكرك عزيزي القارئ، واختبر كل معلومة تجدها في هذا المقال بمعايشتك اليومية للأحداث، وتجربتك العملية والإنسانية، وفلسفتك في الحياة. فليست هناك حقيقة مطلقة في هذه البسيطة، ولا يوجد ثابت تحت الشمس، فالكل في حالة تحول وتمحور وتغيّر، إلّا الله خالق كل شيء، الذي بيده الأمر، لا إله هو الواحد القهار.
ظلت بلادنا في حالة استنزاف مستمر، لا ولن تشهد الاستقرار بالمنهج الذي تسير به، ما لم تستدرك الأمة السودانية خطورة وسوء المآل، وتعمل مجتمعة على معالجة ما يمكن معالجته، وتدارك ما يمكن تداركه، وأولى تلك الخطوات هو التفكير خارج الصندوق والتوافق على كيفية إدارتها، وعلى قائد مؤهل ومبدع وملهم، مع اعتماد سبيل الشباب الذين يخرجون يوماتي ضد حكم العسكر باعتبارهم الأقرب لفهم قواعد اللعبة في عالم مفتوح ومتغيِّر.
تَرَك أحزاباً موالية
أتذكرون أنه منذ استقلال البلاد من الحكم الثنائي البريطاني المصري في العام 1956م، وترك الاحتلال البريطاني، أحزاباً موالية له، وحرباً في جنوب السودان، استمرت رحاها إلى يومنا هذا، G
تتنقل من منطقة إلى أخرى، وما تلك الحروب إلا واحدة من أدوات استغلال ثروات بلادنا من الجهات التي ادعّت أنها خرجت منها بوساطة سماسرة تسمى نفسها أحزاباً، أو حركات مسلحة. وقد تتغيَّر المسميات والواجهات لكنها متسقة في الأهداف، ولا تحيد عنها، التي هي تدمير أخلاق السوداني وسرقة ثروات بلاده، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
نقل الحروب
كيف تفسِّرون نقل حرب الجنوب إلى منطقة جبال النوبة، والنيل الأزرق لتنتهي باتفاقية السلام في العام 2005م، ثم انفصال الجنوب في العام 2011م، لتشتعل مرة أخرى في منطقة جبال النوبة؟ بل نقلها إلى دارفور بمساحتها الشاسعة لتشغل اهتمام كل العالم، والآن تنقل إلى شرق السودان حيث ميناء بورتسودان وسواكن المنفذ البحري إلى العالم، بقيادة تِرِك، مع العلم أن هذه المناطق هي الأغنى بالموارد الطبيعية من نفط، ذهب، ماس، يورانيوم، نحاس، كروم، صمغ عربي، ثروات حيوانية، زراعية وغابية، وما مسمى المجتمع الدولي إلّا واحدة من تلك الوجهات الابتزازية، فإن كان يريد استقراراً للمنطقة واستفادة أهلها بثرواتها لما أخذت الحروب كل تلك الفترة.
قادة أدوات
لماذا قتل القائد الملهم الدكتور جون قرنق، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد اتفاقية السلام مباشرة، ليحل محله سلفاكير ميارديت، صاحب القدرات المتواضعة؟ ومن قتله؟ ولماذا قتل الدكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، بتلك الكيفية من دون قيادات الحركات المسلحة الأخرى؟ أعتقد أن الأمر واضح فالمجتمع الدولي يريد قادة أدوات، ولا يريد أصحاب الأفكار الكبيرة، وأصحاب الأهداف الواضحة، أن يكونوا على زمام القيادة، ولا قادة أمثالهم لأنهم يعرفون مصلحة بلادهم، ويسحبون البساط من تحت أرجل أصحاب المصالح الإقليمية، ووسطاء المصالح، ويوقفون سرقة ثروات البلاد، أو معاملتهم بالمثل.
كيف جاءوا؟
انظروا، تمعنوا وتتبعوا سير القيادات التي أدارت بلادنا من رئاسة الدولة إلى المؤسسات صانعة القرار، ألم تجدوهم قيادات متواضعة المقدرات من بين أقرانهم، إن لم نقل ضعاف؟ اسحب ذات المعيار على مؤسسات الدولة المختلفة، بل دقق في المؤسسة التي تعمل فيها من هم الذين يتسنمون القيادة؟ وكيف جاءوا؟ وما شكل القضايا والمشكلات التي ظلت تعالجها هذه القيادات، ثم لا يعالجونها؟ فهي بكل تأكيد قضايا متعلقة بالحروب نفسها، والصراعات الاثنية العنصرية، الجهوية، الفئوية، الكوارث والمجاعات، وليس من بينها التقنية والابتكار، وتطوير البحث العلمي، أو تطوير الإنتاج. لإجبار المتفوقين والمبدعين إلى الهجرة، أو العيش في بلدهم بذلة وهوان.
خطر المنافقين
تطوَّر الأمر إلى تدمير التعليم برمته، وقيم الدين، وجعلوا الجندي الذي يعمل مع مليشة مسلحة أقيم من الأستاذ والمربي، بل يذهب المعلم ليتجند كمليشي ليس من أجل قضية يدافع من أجلها، وإنما لتحسين وضعه الاقتصادي، لأن راتب الجندي أعلى من راتبه. بل هناك تشهير متعمَّد بمؤسسات التعليم واتهام منسوبيها بممارسة الأفعال الفاحشة التي يحرمها الدين، وتستنكرها الأخلاق الحميدة، وهي حملة مرعية ومدفوعة الثمن. وبكل أسف استغلوا علماء الدين، كمدخل لهدم سلوك المجتمع السوداني بالتشكيك في المسلمات الدينية، والذين هم أخطر من الكافرين والمشركين.
وباسم الحريات شاع كل ما هو منكر، وانتشرت المخدِّرات، والسموم، وشائعات التخويف والتهويل ليظل الإنسان في حالة هلع دائم، مع توفير التمويل لها وللحركات المسلحة، لتدمير الشباب. وما تلك المخدِّرات التي دخلت السودان بالحاويات إلا واحدةً من فصول تدمير الشباب الممنهج وإضاعته وإعدام الثقة في نفسه، وفي مؤسسات دولته، وتشجيعه على الهجرة منها، إلى الدول التي يخيَّل إليه من بهرجتها أنها المثلى ثم لا يجدون شيئاً، ويعملون في مهن هامشية.
دق إسفين أخير
وتمدَّدت المخاطر إلى التعليم العالي ودق أسفين فيه كمرحلة أخيرة، بحيث لا يستطيع أحد إحداث تغيير هذا الواقع. لا ولن يستطع أحد أن ينكر للإنقاذ إنها أسهمت في تطوير الجامعات وزيادة عدد خريجيها، الذين كانون وقود ثورة ديسمبر 2019م، المجيدة وشعلتها، كما هم وقود المليونيات الاحتجاجية التي تخرج إلى اليوم، وبالتالي كانت هذه المؤسسات مصدر تثقيف ديموقراطي والتعريف بالحق الإنساني، وحق الأوطان، وباتت مصدر إزعاج لأولئك الذين يقفون خلف الحدود (وسطاء المصالح).
بدأوا محاربتها بإشاعة تدني مستوى مخرجاتها، ثم تهجير كادرها المؤهل، ثم تحطيم معنويات كادرها المتبقي العامل بالأجور غير المجزية، لتخرج لجنة أساتذة الجامعات السودانية (لاجسو) لتتبنى المواجهة لإعادة قيمة الأستاذ الجامعي إلى موضعه الطبيعي، ونجحت في المهمة، ولكن بدأ الطلاب يتسرَّبون من جامعاتهم للالتحاق بجامعات الدول المجاورة، والدول التي تسعى لإيجاد سوق لجامعاتها، وما تزال المتاريس موضوعة أمام مؤسسات التعليم العالي لتطلع بدورها الريادي في إنتاج المعرفة والمساهمة في صناعة القرارات السيادية للبلد. فإن نجحت تلك الجهات في تدمير التعليم العالي، يعني تحطيم البلاد.
ما تلك التنبيهات إلا صورة مقطعية لواقع نعيشه ونكتوي بناره، وهو ليس في السودان لوحده، بل في غالبية دول الإقليم، والبلدان التي بها موارد طبيعية غير مستغلة. عشمنا في أن يعي الشعب هذه الحقائق ويفوِّت على أصحاب الأهداف المبطنة تحقيق مبتغاهم. والواجب من كل سوداني أن يدرك خطورة الموقف وأن يسعى إلى المعالجة الجذرية، حتى يظل سوداننا شامخاً أبياً.