14 يونيو2022م
“الحزن لا يتخيَّر الدمع ثياباً كي يُسمى في القواميس بُكاء، الحزن فينا كائنٌ يَمشي على ساقين”.. الصادق الرضي..!
قبل فترة قالت صحف الخرطوم التي “عندها المِحَنْ” إن شاباً ثلاثينياً قد شوهد في إحدى مقاهي بحري وهو يخاطب خطيبته قائلاً إن الفنجان الذي يحمله بين يديه ممتليء بقطرات دموعه التي ظل يسكبها طوال الليل بسبب شجارٍ كان قد وقع بينهما، ثم ها هو يقدمه لها في الصباح دليلاً على حبه وإخلاصه. أما الفتاة فقد شُوهدت وهي تبكي وتنتحب حتى لَوت أعناق الحاضرين، قبل أن تسكب دموعها هي الأخرى على ذات الفنجان..!
صحافة الخرطوم التي “عندها المِحَنْ” لم تكتَفِ بغرابة تلك الحادثة التي جعلت منها موضوعاً لخبر، بل مارست حقّها الدستوري في الاستقصاء فاستنطقت عامل المقهى “ن. م” الذي أكد للمحرر الهُمام بما لا يدع مجالاً للشك المعقول أن مسألة الدموع والفنجان تلك هي أحد فصول حكاية ظل المقهى الذي يعمل فيه ساحةً لها. فالخطيبان – بحسب إفادته – كثيراً ما يجلسان هناك لفترات طويلة وكثيراً ما يتشاجران قبل أن يتم الصلح، ثم يعاودان الشجار من جديد، وهكذا..!
حسناً، قد يقول قائل مَن نحن ومَن نكون حتى نمارس إحدى عاداتنا الذميمة في إطلاق الأحكام على شابين راشدين اختارا أن ينتهجا بعض الجنون المُفضي إلى مزيدٍ منه، في تصريف شؤون وشجون علاقة خطبةٍ تنتظر اكتمال فصولها بزواجٍ سوف يتحوّل فيه الهمس إلى شخير لا محالة، ولسوف يتمدّد الملل في أثنائه على أريكة الشغف بلا جدال..!
ومن ثمَّ يأتي بعد ذلك “حمودي” بكل أعباء انزلاقته الوجودية من “البامبرز” إلى رسوم “الروضة” إلى تكلفة “اللنش بوكس” والذي منه. قبل أن يَشُدَّ من أزر شقاوته ويزيد من وطأة “مُحاحاته” قدوم “ألوية” بكل مشاوير الذهاب بها إلى الطبيب، وبكل بكائها المتقطع آناء الليل وأطراف النهار. وقبل أن يتحول ذلك الفنجان – الذي فعل بدموع صاحبنا البَكَّاء ما لن يفعله سد النهضة بمياه نهر النيل – إلى استئناف دوره المقدس في حفظ بقايا قهوة صاحبتنا توطئةً لفك رموزها على يد عرافةٍ ما تَبثُّها شكوكها بشأن “حركات” زوجها الذي بات لا يأبه إن هي تزينت له أو اكتفت بقميص “الهزاز” المثقوب جانبه. فضلاً عن السبب الذي لن تقول به قارئة الفنجان والذي يتلخص ببساطة في أن الرجل فقط مُجهد ومطحون لأنه رب أسرة محدودة الدخل والحيلة، مُنهمكٌ على الدوام في ترقيع ثقوب الميزانية ومطاردة غلاء الأسعار..!
لن نُطلق الأحكام إذن، لكننا قد نمارس حقنا التاريخي في قراءة بعض الظواهر الآخذة في التَمدُّد، وحتى تفهم ما أعنيه دعني أذكرك بطرائق “المخطوبين” أيام حكم الإنقاذ. بعض عشاق عهد الإنقاذ كانوا يلتقون في الندوات الدينية ويذهبون معاً إلى التلاوة، ويرفعون السبابة وهم يرددون معاً “الله أكبر” كلما أكد لهم الرئيس “البشير” أنه لن يتنازل عن تطبيق الشريعة وأن أمريكا كانت ولا تزال تحت حذائه. لكن معظم الآنسات في تلك الحكايات تحولن بمرور الوقت إلى زوجاتٍ أُوَلْ بعد انتشار ظاهرة التعدد، فالناسُ على دين ملوكهم..!
ولأن الناسَ على دين ملوكهم فما حكاية الدموع والفنجان تلك إلا ظاهرة تتماهى عبرها طرائق المحكومين – في فهم المعاني واجتراح المباني – مع طرائق حكامهم وأيقوناتهم السياسية ذات المواقف المُلتبسة في مرحلة ما بعد الثورة بكل مآلاتها ورومانسيتها السياسية وسذاجتها التنفيذية وإحباطها المركب..!
لعلك الآن قد فهمت لماذا يختزل العشاق البَكَّاءون – في هذه المرحلة المفصلية الحرجة من تاريخ حكم السودان – مسألةً هائلةً كثبوت الإخلاص في حفنة دموع، ولماذا يقدمون فناجين الدموع و”قُصاصات الحواشي” عوضاً عن تقديم “الأفعال ذات الجدوى” التي تُحدِثُ التغيير المطلوب في “جذر المُتون” وفي “أصل القضايا” التي يخذلها دوماً جَوَر الأحكام، فيثور الغبار ويندلع الشجار..!
munaabuzaid2@gmail.com