(شارع جوبا) رؤية تحليلية وصبغة تلون ريشة الإبداع لنروي لوحة متكاملة، كل لون فيها يمثل حكاية، تتابع القصص، متعة السرد وتفاصيله المشوقة..
عودة من سحيق الحكايات أو من عميق الذكريات ربما عودة من الماضي (زمانا) أو من حيث يقبع الماضي بعيداً في التلافيف والأدراج (مكاناً)، نداءً لزمان في حيز يشغل مجازاً عالماً من المسرح والقصص، وخيوطاً من فجر الحكايات ليكون المعني مهموماً بإيواء أصوات الروح ووشوشة زهر الحنين، أوسطوراً تتوشح الحبر لتسير بأقدام واجفة وأحاسيس مرتعشة من مصير كلمات قد يحبسها القدر في صدور معاني من غير إذن همس القلم الذي يبث أسراره في آذآن الورق، اقتران روح وجسد في حكاية إنه لبداية سحر يلفت انتباه العيون، وتتبعه الحواس يقظة دون أن يغشاها من الكري نعاس، مجرد وسن يلون مهجة الحروف ليكتمل الحلم في شرفة التلاقي، أناس يعتصرون الحزن وبعضهم يلوحون للفرح كإشارات للدخول حيث يقف (شارع جوبا)، ذاك الطريق لزمن تاهت عنه العناوين وظل برفقة أعمدة الأنارة الشاحبة التي يغسلها المطر كل عام إذ تبتهج وتلبس لوناً جديداً، ذاك الضوء الخافت الذي يبارحها لم يجف عرقه ريثما يصطدم بزجاج المحلات التجارية التي تنتظر احتضانه في شغف، ثم يمضي هرباً لكنه يذهب غير بعيد إذ يرتد كشعاع من نهار غمرته عتمة البيوت وابتلعته في جوفها ثم مضغته جيداً حتي عاد فاتراً ولم يكن في نيته إنارة الطريق! سحر اللغة وبلاغة الكلمات جعلت من الطبيعة مشهداً حياً أو صارت حيوات تمشي بين الناس ولكن لا يعلم لغتها إلا بعضهم، الرواي أنسن الأشياء بصورة جعلت منها رواية وتمردت عليه فصارت البطل الأول فيها، حيث الضوء ينتظر العابرين في الرصيف ليشاركهم هموم الظلام!
هنا تكمن أدوات المؤانسة لدي المتلقي فحالما يسترسل القارئ في بواطن الرواية يستشف كل المعاني التي تجعله ممسكاً بالحكاية ولن يستطع عنها الإنفكاك، إذ يلحظ أنواعاً من الألم في سرد الأحداث وزوايا النظر المختلفة، الراوي يذهب بك حيث يشأ من مكان: لتتعرف علي تجربته الإبداعية لاسيما عندما يتناغم الكون التخيلي للروائي مع الأحداث الواقعية، ستجد صعوبة في فصل خطوط الإمتاع ومعايشة الألم، ليس بالضرورة أن يكون الراوي معايشاً للألم حتي يعيد صياغته في قالب سردي بتقنيات وطرق تخيلية ممتعة تدهش القارئ وتجعله يتجول بين الأحداث حتي يظن نفسه واحداً من الأبطال ربما يموت قبل نهاية الرواية أو يهرب متجاوزاً الغلاف! ولكن يمكن أن يكون صاحب صنعة سردية يصور الأحداث وفق رؤيته للعالم أو المجتمع المعني أو الحقبة الزمنية المعينة،وتجد الكاتب في ترهات (شارع جوبا) بين المحلات التجارية وأعمدة الإنارة المحقونة في جسد الرصيف ينفث دخان خياله فيتكثف بعيداً ليعود مطراً يغسل حزن الفكرة .
ترك الكاتب لخياله العنان فارتدي معطفاً من تاريخ في ليالي يسود فيها برد الضمائر بدت رعشات الجسد واضحة في نبرات الحروف التي جفا حلقها فكانت تنطق من البلعوم: آن للزمان أن يكون حراً فقد كان بصمة تاريخية . تصوير المشاهد لعهد معين أو فترة زمنية محددة وسرد تفاصيل دقيقة لمعطيات التاريخ خلال عمود سردي محدد تلتف حوله كل الأحداث والوقائع بصورة سردية دقيقة وبلاغة لغوية مميزة ، يٌمكننا من القول بأن هذه الرواية تشبه لحد بعيد الروايات التاريخية لما تميزت به من توثيق لفترة زمنية محددة من تاريخ السودان.
ناقشت الرواية قضية الهوية وتعمقت في جذور مشكلة الجهوية والعنصرية إذ طالعتها بزوايا متعددة، أحياناً ترتفع اللهجة فتصبح قاسية جداً بمفاهيم قد تبدو أكثر غرابة للمتلقي حين يسمع بعض (قراءات طلال) من دفتر حياته وطلال أحد الأبطال الذين تجولوا خارج وداخل الوطن وكان يحمل معه القضايا أينما ذهب وأحيانا يتمرد علي الكاتب ويخرج من بين الحروف ليكون إنسانا في شارع جوبا في المكان الذي يحب ويفضل دائماً.. ناصية مطعم (عوض بابور) ذاك الشخص السوداني الأصيل عرفاً وسلوكا ونهجاً، برفقة اصدقائه الأعزاء، وفي نفسه شيء من حتي الأسئلة عندما يتذكر رفيق الصبا الذي أخذته عنه السياسية والمواقف غير الوطنية التي في كل مرة يكتشف عنها شئياً جديداً، ترتفع النبرات فيتهدج الصوت ثم ينحسر قليلاً حتي يصبح كنهر في موسم الصيف فيبدو أكثر هدوءاً ووسامة ويكون جاذباً للطيور والعاشقين، وقد بات ليلته يسامر القمر ليعكس حديث النهار في الضفاف، ثم ينخفض وتزول الحدة ويكون ناعم الملمس علي المسامع،فيفرح بذلك الحوار والنقاش يثري البراحات معرفة ونضارةُ معاني.
اللغة الآسرة تحدد تحركات القارئ أي تجعله مقيداً بخيوط الشعر والموسيقي والبلاغة والنثروفنون اللغة المختلفة،تقودك التفاصيل دون ملل أو وهن إلي بئر النفس حيث تكون السقيا سلسبيلا ومآباً، وأيادي السرد تمد إليك الشراب كأساً دهاقاً، تثمل وعقلك بين جنبات الروح يرافق حديث التشويق.
كانت لغة الحوار بين موكونات الحي التي تألف بعضها في توادد وتراحم كانت لغة محبة رغم صعوبة الظروف التي جعلت ذلك ممكناً وأحياناً غير ممكن،
عودة طلال بعد منفاه الإختياري الذي دام لسنوات عجاف ذاق فيها كل أنواع الألم والعذاب خاصة الروحي،والفرقة والشتات ووخزات الوجدان، مثل الماضي بالقيعان لما فيه من مر ذكريات، رمل أجرد لم تكن خضرة ولا مياه ولا عذوبة،هذه رمزية قاسية تدل علي قفر المكان والزمان وفترة ساد فيها الظلم والفساد،نقلت الأحاسيس عبر أخدود الحزن الذي ظل ممتلئا بأحداث ووقائع صنعت حقبة تاريخية عجفاء.
يتحدث الراوي عن مكونات الطبيعة في (شارع جوبا) وسرعان ما يتدخل طلال ليحكي عن نفسه وزيارته الأولي لمقابر الصحافة حيث قبر والده، استوقفته الأسئلة لماذا صار هذا القبر نحيلاً رغماً من قامة أبيه وبنيته القوية؟، حاول أن يحتجز الذكريات في جزء بعيد من الذاكرة حتي لا تتأثر برياح السافنا أو أن تغرق في نهر الدمع المالح الذي بدأت أمطاره هتوناً من قلبه المفطور حزناً.
استدعاء الماضي في شكل شريط ذكريات في لحظة حزينة يجعلها تعود كفلاش باك لتغطي كل المعالم المخفية ويتضح جسد الرواية كاملاً في معرض الصور حتي نتمكن من المشاهدة بصورة أوضح وأنضر، حيث يقف طلال برفقة صديقه وزميله طيفور عبود قبل انشغال الحكاية بتفاصيلها اللاحقة، أول وجهة أمان قصداها هي مغسلة السيارات فكان الرجل الأبنوسي المسيحي قد استقبلهم بطريقة قدرية بحتة واكرمهم بما استطاع، أول الأزقة هو زقاق الهروب من الخدمة الوطنية وبداية عهد جديد في حياة طلال، الرجل الجنوبي استقبلهم رغم اختلاف الدين والعرق واللون والسحنة ومن هنا تدفقت أفكار الرواية لمالجعة قضية الهوية ونبذ العنصرية العقيمة، كانت بداية ذكية جداً من الكاتب لتوضح للقاري من أين أتي الخلاف وكيف كانت الأسباب.
اللغة العالية والإستعارات الجميلة قد تجعل القارئ يتوه بين تفاصيل الحكي، هنالك أنواع كثر من القراء فمنهم من يحب اللغة الرفيعة ومنهم من يجذبه الموضوع ومنهم من يعشق التفاصيل ومنهم من تآسره الحكاية فكل قارئ يجد حظه هنا لأنه الرواية شملت كل أنواع الإبداع والتصوير الأدبي الذي يقودك دون عناء إلي ضفاف سعيدة ترافقك موسيقي الشعر والنثر والأحاجي،
من يقرأ عن الموت وتفاصيله المخيفة أو من يقابل الحزن في سطور قليلة لن يتوقع أن هناك ثمة حب أو عاطفة تكون، لكن في هذه الرواية عشق وعاطفة حينما تسدل ستارها علي المكان تسمع الأنغام والمحبة، تقفز بك الحكايات إلي أن تجوب حقولاً من الفرح، الرقص عند (روان التاج) سمة من سمات التواجد في عالم يعني للنفس ترتيبها فتكون بالقرب من أي لون تمرره الريشة علي اللوحة ولها الحق في التغيير قبل أن يجف الرسم،هكذا كانت فاتنة وروحها تواقة للخير قبيل أن تلحق (بطلحة الجاك) الذي ترجل من الحكاية تاركاً للكاتب تساؤلات لايستطع الإجابة عليها واثر أقدامه بين السطور يدل علي الأرصفة التي كانت تنتظر الموعد ولكن القدر كان أسرع من توقعات الزمن.
شجرة العنصرية البغيضة القت بظلالها الثخينة في كل مكان، حيث اتخذها أهل الدين والسياسة مأوىًّ لهم فساد بينهم الفساد وتحطمت قواعد الإقتصاد، كتبت أقلامهم مالا يمكن احتماله من سخرية وإشاعة للفاضئل الزائفة ، القبلية ثم التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، الثقافات ، اللهجات والقبائل لم تجد وعاءاً يجمعها لتخرج بصورة يري كل من الناس مايشبهه أو يجعله صادق الإنتماء. كان يتصارع النخب فيما بينهم فنشبت الحروب الأهلية وتعطلت التنمية مازلت بذور العنصرية تنبت في كل مكان والنظام يسقيها لتكون ظليلة كالشجرة الأم.
حتي الأخوة فيما بينهم ينتهجون نهج النخب في التفرقة والشتات وأطماع النفس التي لا تشبع، ذاق المر أناس بهكذا أسباب، كان طلال ضحية لكل هذه المشاكل والعثرات التي سدت طريقه لتحقيق أحلامه،
أصبح ساخطاً علي المجتمع وعلي بعض اصدقائه الذين بدورهم كانوا أداة من أدوات القمع ونشر الأخبار المغلوطة،
ماكان له إلا أن يكون ثائراً ليري بعينيه عهداً جديداً تتحقق فيه كل أوجه العدالة وتتحقق فيه كل المطالب التي ظل ينشدها وينادي بها منذ فجر صباه.
خرج الجموع من البشر ثواراً أحراراً مطالبين بالتغيير
كلما يرى طلال موكباً يرى فيه الأحلام تتحقّق وجغرافيا الوطن تبتسم من جديد كأن هناك وعداً مع القدر ليدير عقارب الكرة الأرضية للتوفق في مكان وزمن محددين ومن غير رجعة للأيام الزائفة والأماكن الشاحبة، فقط حرية سلام وعدالة.
هذه لفتة ومقاربة من بين السطور في الرواية:
“شمس تجفف اسمالها في شفق المغيب، لاجئون يتدافعون بعنف في جسد الشارع،لهجاتهم مبحوحة بلهوجة منسجمة،أعينهم زائغة تشي عن لهفة متبطنة بإذعان مبهم .. كثيراً ما يشبهون الغجر عند ماركيز في مائة عام من العزلة عندما اشتري منهم اركايو بوينديا مغنطيساً استطاع به استخراج درع قديم من باطن الأرض”..
هكذا قرأت سطور (شارع جوبا)، هي رواية مختلفة تماماً تغطي عليها جماليات اللغة وفتنة محاسن البدائع تثير المتعة للقارئ، إضافة حقيقية للمكتبة السودانية وسوف تثري ليالي الثقافة والنقد وسيجد النقاد حظهم الموفور لما يحمله الكتاب من معاني وتناقضات وإختلافات مجتمعية.
ألف مبروك للصديق المبدع الروائي البشمهندس صلاح تنقاري في عمله الروائي الأول
(شارع جوبا).وأتمني له المزيد من الإبداع والإصدارات والنجاحات في كل الضروب. وأن اتمني أن تنال الرواية حظها من العالمية عن طريق الترجمة وسوف تكون من خالدات الأعمال لما تحويه من حقائق وصفات تخص السودان والشخوص بذات السمات التي تعكسها اللهجات، كما أن للمكان خصوصية فريدة وهو مدخلاً واضحاً دون طريق يمكنك من الولوج إلى ترهات الرواية وبهذا التميز صار المكان عنواناً للرواية. إذ يعتبر المكان بطلاً تتحلق حوله الأحداث ويناصره الشخوص بجدية.
أبريل 2021