“أوســـــع المَــــــواعين”
هذه قصة سَمعتها من أحد الأصدقاء ووجف لها قلبي حَرفياً.. قال لي وهو مُستغرقٌ في اليقين: كُنت مُصاباً بأرقٍ عظيمٍ في إحدى الليالي.. حاولت أن أنعش جسدي بالاستحمام وأستعين على هذا الأرق بالاسترخاء فلم أفلح.. فكّرت في الخروج إلى الشارع والتِّجوال قليلاً في الطرقات حتى استدعي الإرهاق لأنام.. عبرت أثناء تجوالي أمام مسجد الحي.. وجَدتَ بابه مفتوحاً على غير العَادة فلم يكن موعد صلاة الفجر قد حَانَ بعد.. عربة فارهة تقف أمام الباب.. قادتني قدماي مدفوعاً بالفُضُول أو ربما طلباً للسكينة إلى الداخل.. وجدت بهو المسجد الفسيح خالياً إلا من رجلٍ وحيدٍ راكع على السجاد الأنيق والمكان ملفوف بالصمت ومحتشد بالرطوبة ورائحة البخور.. كان الرجل مُنهمكاً في الدعاء من بين الدموع وصوته متهدجاً بالرجاء يسأل الله العفو والمغفرة.. كان مظهره يُشير بوضوح لأناقة مفرطة واقتدار وغنى.
جلست أراقبه في صَمتٍ وقَلبي يخفق من قُدسية المكان وعظمة الموقف.. شعرت بالخوف والعبرة تسد حلقي.. أحسبني من المُقصِّرين أو إن شئت الدِّقة من العُصاة المخدوعين بغرور الحياة ومتاعها الزائل.. أتكأت على عمود المسجد وأنا استمع لدعاء الرجل وأردِّده في صَمتٍ.. واستغرقت لا شُعورياً في نَومٍ عَميقٍ وأنا في مكاني ذلك وسط الأجواء الرُّوحانية الحَميمة, لَم أشعر بنفسي إلا وأحدهم يهزّني من كَتفي لأفتح عيني على ضوء الشمس الغَامِــر وهُــو يَملأ المَكان, أدركت بعد لحظاتٍ من الذهول أنّني نمت بعُمقٍ لساعات طوال كما لم أنم من قبل. استرجعت كل المَشَاهد بسُـرعة, والتفت للرجل الذي أيقظني وسألته: مَن أنت؟ فقد كان شكله العام غريباً لا يشبه أهل هذا الزمان.. رَدّ عليّ بهُدوءٍ: “أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم” خفق قلبي بشدة.. وبلعت ريقي على عجلٍ وألجمت الدهشة لساني.. استرسل الرجل في الحديث بذات الهدوء: “قم إلى ذلك الرجل المُستميت في الدعاء.. وأخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبشِّره بالجنة, وأن الله قد غفر ذنبه وقبل توبته وعلم صدقه”.
اختفى الرجل بعد تلك العبارة مُباشرةً.. لألتفت نحو مكان الرجل فأجده قائماً على ذات الركوع مُسترسلاً في الدعاء بحرارة بذات الصوت المُتهدِّج الدامع في إلحاحٍ شديدٍ..
قُمت إليه مُسرعاً مُتعثِّراً على عَجَلٍ.. جثوت إلى جانبه واحتضنته بغتةً حتى ارتعب ورددت عليه حديث الرجل.. مضى في بكائه حتى خشيت عليه وبدأ يحمد الله جَهراً ثم أسرع خارجاً دُون أن أعلم سر النّدم العَظيم الذي يعتريه تاركاً إيّاي في دَهشةٍ وحيرةٍ.
انتهت حكاية صديقي التي يقشعر لها البدن وهي تُذكِّرني بهول تقصيري, وتذكّرت سيدنا “سعيد بن المسيب” حين سُئل عن أعبد الناس فقال: “من تذكر ذنبه.. فأحتقر نفسه”!! وسيدنا “علي بن أبي طالب” رضى الله عنه قال: “ما ألهم الله عبداً إلا وكان يُريد أن يغفر له” فماذا ننتظر حتى نطلب الرحمة والمغفرة من أوسع مواعينها؟!!
تلويح:
استغفر الله العظيم وأتوب اليه..