سر النجاح ليس في النظام، بل في القوة التي تُحرِّك النظام”.. أنطوان سعادة..!
الذين أسعد بمُتابعتهم المُنتظمة لهذه المساحة، يَعرفون جيداً ولعي بالنصوص البديعة، لذا فهُم يدركون مَغزى حديثي كُلَّما كَتبتُ لهم – بعد فراغي من قراءة نصٍ أمسَك بتلابيبي – عن دفقة الألم تلك، وعن ذلك القلق المَاتِع والعَصف الذهني اللذيذ، الذي يَعقب قراءة النُّصوص الجَميلة، وكيف وكم أنّ بعض تلك النصوص تُضئ قلوبنا كما ينبغي، وتَسطع في دواخلنا بما يكفي، قبل أن تتحوّل الومضة إلى قطعةٍ مُطرزةٍ في قماش الذاكرة النّاعم، نعود إلى استدعائها كلما سنحت لذلك سانحة.. فإلى حكايةٍ أخرى يتضمّنها كتابٌ جديدٌ، أمَسك – ولا يزال – بتلابيبي كقارئة!..
بدأت حكايتي مع كتاب د. “محجوب حامد الكدقري” – مدير مستشفى ساهرون – إثر إصابةٍ بعد سُقُوطي على الدَّرج، ومن ثَم زيارتي لعيادته، وانصياعي لتوجيهاته المهنية بوجوب مُشاهدة حلقات تلفزيونية مُسَجّلة – على موقع يوتيوب – يتناول خلالها بالشرح والإسهاب والتفنيد أعراض وآلام الركبة وتَداعيات خُشونة المَفَاصِل.. وكنتُ قد فرغت من مُشاهدة الحلقات حينما لمحتُ اقتراحاً لمشاهدة حلقة أخرى، بثَّتها قناة الخرطوم الفضائية، وكان د. “الكدقري” قَد حَلَّ ضيفاً عليها، وأجَابَ على أسئلةٍ كثيرةٍ تتعلّق بمسيرته المهنية، قبل أن يُشير إلى كتابٍ له تحت الطبع، يتناول عثَرات وعبَرات رحلته الدِّراسية من مدرسة “حجر العسل”، مُروراً بمدرسة “خور عمر”، وانتهاءً بكلية الطب في جامعة الخرطوم، ثُمّ ما أعقب ذلك من دراساتٍ عُليا وشهاداتٍ عالمية!..
حينها وكَعَادتي مع كل ما يُكتب ويُقرأ لم أبذل جَهداً يُذكر في مُكابدة فضولي بشأن الكتاب، فحدثت د. “الكدقري” عن رغبتي في قراءته، فتفضّل مشكوراً بإرسال نسخةٍ إلكترونية، وعدته بعد شُكري إيّاه عليها بِرأيٍ صَريحٍ حَال فَراغي مِن قِراءتها. وكُنت أظن أنّ ذلك سَوف يكون بعد أيّامٍ لانشغالي في الأمسيات بمُراجعة وتنقيح كتاب كان على وشك الصدور عن “دار نشر الجامعة الوطنية”. لكن شمس اليوم التالي لم تشرق إلا بعد فراغي من قراءة الكتاب..!
كنت قد انتويت أن أقلِّب بعض الصفحات قبل النوم، لكن ذلك الكم الهائل من الصور الإنسانية، والتحديات، والعوائق، والمصاعب، والتضحيات، والقيم، والفضائل، واللواعج، والمشاعر، فَضْلاً عن فُيُوض الطموح، وشلالات الإرادة، التي تزخر بها صفحات الكتاب – كل تلك المعاني والمباني – جَعلتني أزهد في النوم، بعد أن وضعتني قيد إقامةٍ جبريةٍ، داخل حُدُود بقعة ضوءٍ خافتة ظلّت تنبعثُ من شاشة “اللاب توب”، منذ منتصف الليل وحتى مطلع الفجر..!
“دخلت مدرسة حجر العسل الابتدائية في العام 1974م، وكنت حينها قد تجاوزتُ الثامنة من عمري بعدة أشهرٍ. وقد دفع أخي الأكبر حسن رسوم دراستي، بعد أن جَمع مبلغاً من المال في الإجازة، من عمله في زبالة البيوت بالقرية”. هكذا تبدأ حكاية كفاح طفل قروي، تُكابد أسرتُه لسداد رسوم التحاقه بمدرسةٍ تبَعُد عن قريته مسافةً تقدّر بأكثر من أربع كيلو مترات، كان يقطعها سيراً على قدميه، وهو “يُساسق” بين الخيران في الخريف، خائضاً في الطين لمَسافاتٍ طَويلةٍ، ومع كل ذلك اجتاز المرحلة الابتدائية بتفوُّقٍ، وكان ترتيب مدرسة “حجر العسل” هو الأولى، وكان ترتيبه هو الثاني على المركز الذي كان قوامه أربع عشرة مدرسة..!
وتتوالى صفحات الكتاب مُروراً بالظروف الأسرية والاجتماعية المُصاحبة للمرحلة المُتوسِّطة، قبل أن تتوقّف عند المَشهد الذي أبكاني.! الصَّبي المُقيم عند أقاربه لدواعي الدراسة يَعُود إلى قريته آخر الأسبوع ويَذهب لمُساعدة والده في العَمل، فَيطلب مِنه والده الذي بَلَغَ منه التّعب كُلّ مَبلغ أن يترك المُدرسة ليُساعده في الزراعة.! الطلب عزيزٌ وليس أوجب من بر الوالدين، لكن ترك الدراسة إلى غير رجعة هو شَكلٌ من أشكال الموت لصبيٍ غض يحلم بالجامعة. هنا يُقدِّم الكتاب دَرساً بليغاً في ضبط النفس والصبر الجميل وحُسن الخطاب. بعد اجتهادٍ في العَمل واستسلامٍ واضحٍ قال الصبي بأدبٍ جمٍ “يابا أنا خلاص بَخلِّي المدرسة بالعصر، أمشي الصباح وأجي أساعدك هنا كل يوم بالعصر، عشان أجيب شهادة أخُش بيها العسكرية، أنا قاري كويس والقريتو دا بينجِّحْنِي”، فهل وافق الوالد..؟!
منى أبو زيد