الخرطوم: انتصار فضل الله 5 يونيو 2022م
وقف الموظف عبد الرحمن آدم، حائراً داخل “ملحمة” أولاد أم درمان في مدينة المهندسين، فغلاء سعر اللحوم جعله عاجزاً عن الشراء .
يتقاضى عبد الرحمن، الذي يعمل في إحدى المؤسسات الحكومية مرتب ضعيف لا يكفي سداد دين صاحب “الدكان”، أمعن النظر في أنواع المعروض ثم أخرج حفنة من المال من محفظته واكتفى بشراء “ربع كيلو عجالي” بسعر (700) جنيه، وغادر وهو يردِّد ” الوضع صعب جداً المرتب يكفي لشنو ولا شنو”.
ظلت الفجوة شاسعة بين مستوى المعيشة والحد الأدنى للأجور، ما شكَّل هاجساً كبيراً في ظل أوضاع مذرية وارتفاع مستمر في الأسواق .
واستمرت المطالب بمعالجة هذه الهوة تتكرَّر كل عام عند وضع تقرير الموازنة العامة، لمقابلة الضغوط المعيشية المتزايدة.
مشكلة الأجور قديمة لكنها ازدادت حدة خلال السنوات الأخيرة من عمر الإنقاذ، ونادت قطاعات واسعة من العاملين وقتها بتحسين الهيكل الراتبي حتى يتماشى مع تفلتات السوق.
رغم الإجراءات العديدة التي اتخذت لتحقيق ذلك، ظلت قضية الهيكل الراتبي هي المعضلة التي أوقفت الحياة بصورة عامة وشكَّلت خميرة عكننة للوضع في السودان، يبقى التساؤل ما المعضلة التي تواجه الهيكل الراتبي؟ وما تأثيرات ذلك على الحياة العامة؟ وهل تحمل الرياح القادمة ما يشتهيه العاملون؟
1
نفَّذت قطاعات واسعة خلال العامين الماضيين اضرابات واحتجاجات على ضعف الرواتب ما زالت مستمرة، ما دفع وزير المالية إبراهيم البدوي، حينها، اتخاذ قرار تعديل الهيكل الراتبي وهو ما عجَّل باستقالته وخروجه من الوزارة بسبب الخلاق بينه والحرية والتغيير الذين احتجوا على عدم مشاورتهم في مسألة الرواتب.
وتواجه البلاد أزمة حادة في النقد مقابل تراجع قيمة الجنيه وتصاعد مستمر للدولار الأمريكي ما فاقم الأزمة وأوجد ظاهرة انفلات الأسعار.
2
يقول حامد ساتي حسن، موظف: ” يوجد ظلم واضح في الرواتب في الدرجة الوظيفية الواحدة، واستعصى على الذين يتقاضون أجر أقل من (100) ألف جنيه، مجابهة ظروف المعيشة ما يتطلَّب المساواة والإنصاف.
هل ما نتقاضاه شهرياً يعتبر مرتب وهو لا يكفي المواصلات؟ ” بهذا الاستفهام بدأت هاجر ربيع، موظفة حديثها، قائلة: إذا بلغ الأجر (200) ألف جنيه، يعتبر أجر ضعيف مقارنة بالزيادات التي يتفاجأ بها المواطن كل فترة، وهو ما جعل عدد كبير من الأسر تلجأ لبيع ممتلكاتها وتتجه للعيش في مصر وأخرى تواجه مصير مجهول في دول أخرى، وهو نفسه الوضع الذي ازدادت معه الهجرات و السيولة الأمنية والسرقات وغيرها من الجرائم .
3
قال الجهاز المركزي للإحصاء في السودان بتاريخ الثلاثاء 17 مايو 2022م: إن معدَّل التضخم السنوي تباطأ إلى (220.71%) في شهر أبريل، مقابل (263.16%) في مارس .
وتعتبر المطالبة بتعديل الهيكل الراتبي إحدى مطالب مذكرة 5 يوليو 2021م، إضافة لمطالب أخرى، أدى عدم تنفيذها إلى ظاهرة الاضرابات بواسطة قطاع التعليم العام والعالي والقضاة والأطباء وغيرهم، ساهم ذلك في إغلاق المدارس والجامعات لأشهر كمثال.
جرى تحت جسر معالجة الأزمة العديد من الإجراءات التي وصفها متحدثون لـ(لصيحة) بالقاسية وغير الرشيدة اتخذتها السلطات تمثلت في الاعتقالات والإعفاءات الوظيفية، بدلاً من معالجة جذور المشكلة وتهدئة الأوضاع.
4
وفقاً لتقارير إعلامية سابقة، أعلنت الحكومة السودانية في وقت سابق عن نيتها زيادة أجور كل العاملين في الدولة وذلك ضمن موازنة عام 2022م.
وقد جاء هذا القرار استجابة من الحكومة على غلاء المعيشة وغلاء الأسعار في الدولة، وكذلك التضخم المالي، حيث ارتفع بشكل مبالغ فيه فتجاوزت نسبة الزيادة نحو (69%) وذلك بواقع مبلغ (500) جنيه، لأقل درجات الهيكل الراتبي الجديد في السودان.
5
ووفقاً لمتابعة (الصيحة)، تم طرح هيكل جديد احتوى على الزيادة الجديدة في أجور العاملين في مختلف قطاعات الدولة الحكومية.
وكان من المتوقع أن يتضمَّن زيادة في رواتب العاملين في القطاع الحكومي بنسبة تتفاوت بين (11 – 55%) حسب الدرجات الوظيفية لكل موظف.
قامت الحكومة السودانية بمنح موظفيها في القطاع الحكومي العام رواتباً جديدة وذلك وفق القانون المدني الذي تعمل به.
6
وجاءت الرواتب على نحو:
الموظف الحكومي الذي درجته (17) وكان يتقاضى راتب (1817) جنيهاً، أصبح راتبه الجديد (7130) جنيهاً،
الموظف الحكومي الذي درجته (16) وكان يتقاضى راتب (1911) جنيهاً، أصبح راتبه الجديد (8130) جنيهاً،
الموظف الحكومي الذي درجته (15) وكان يتقاضى راتب (20) ألف جنيه، أصبح راتبه الجديد (9167) جنيهاً،
أما الموظف الحكومي الذي درجته (14) وكان يتقاضى راتب (21.49) ألف جنيه، أصبح راتبه الجديد (102.80) جنيهاً، و
الموظف الحكومي الذي درجته (13) وكان يتقاضى راتب (2266) جنيهاً، أصبح راتبه الجديد (11468) جنيهاً.
والموظف الحكومي الذي درجته (12) وكان يتقاضى راتب (2322) جنيهاً، أصبح راتبه الجديد (12744) جنيهاً، والموظف الحكومي الذي درجته (11) وكان يتقاضى راتب (2430) جنيهاً، أصبح راتبه الجديد (14202) جنيه، بينما أصبح مرتب الموظف الحكومي الذي درجته (10) وكان يتقاضى راتب (2613) جنيهاً، حوالي (15701) جنيه.
7
تحصلت (الصيحة) على تفاصيل الهيكل الراتبي لأستاذة التعليم العالى ابتداءً بالأجر الأساسي (فئة ابتدائية + غلاء معيشة) على النحو التالي أستاذ (96,000) جنيه سوداني، وأ. مشارك (86,048) جنيهاً، والأستاذ المساعد (77,127) بينما حدَّد الهيكل راتب المحاضر بـ(55,541) ومساعد تدريس (أ) (44,622) جنيهاً، ومساعد تدريس (ب) “35,850” جنيهاً، ومساعد تدريس (ج) “32,134” جنيهاً.
فيما جاءت تفاصيل مستحقات طبيعة العمل بنسبة (70%) من الأجر الأساسي،
وبحث وكتب (30%) من الأجر الأساسي، ودراسات عليا (25%) من الأجر الأساسي من محاضر فما فوق، أما
العمل التطبيقي حدَّد بنسبة (25%) من الأجر الأساسي من محاضر فما فوق، والعمل التنفيذي نسبة (10%) من الأجر الأساسي من محاضر فما فوق.
بينما جاءت تفاصيل بدل تمثيل من محاضر فما فوق للأستاذ (12,000) جنيه، وللأستاذ المشارك (10,000) جنيه، وللأستاذ المساعد (8,000) جنيه،
وللمحاضر (6,000) جنيه، وعلاوة اجتماعية (3,000) جنيه.
8
وفصَّل الهيكل المنح والبدلات السنوية البديل النقدي أربعة أشهر، إجمالي للمساعد فما فوق وأساسي للمحاضر فما دون ومنحة عيدين ثلاثة أشهر أساسية وبدل لبس شهرين أساسيين.
وجاءت العلاوات الإضافية بدل سكن للمساعد وما فوق (75,000)
جنيه، و(50,000) جنيه، للمحاضر، و (25,000) جنيه، لمساعدي التدريس و بدل ترحيل للمساعد، وما فوق (33,000) جنيه، و(22,000) جنيه، للمحاضر، و(15,000) جنيه، لمساعدي التدريس.
وكانت لجنة المعلمين ” لاجسو” قد قالت في بيانات سابقة، الهيكل الراتبي الذي تمت إجازته بقرار مجلس الوزراء رقم (90) لسنة (2022) هو هيكل استثنائي يُمثل نسبة 70% من هيكل اللجنة الوزارية وسيتم تطبيقه ابتداءً من (2022/1/1م)، على أن يكون صرف مرتب شهر أبريل، وفقاً لهذا الهيكل.
9
قال متحدثون، في وقت يترغب فيه العاملون زيادة الأجور المتدنية لمكافحة موجات الغلاء التي ضربت كل أنحاء البلاد، خرجت الحكومة ممثلة في وزارة المالية ولجنة الأجور التي تم حلها في العام الماضي، بهيكل راتبي وجد القبول لكنه واجه عراقيل في التنفيذ.
يقول الأستاذ الجامعي حافظ الزين: المعاناة كبيرة وأصبح كل العاملين في الدولة بعيدين من مستوى المعيشة بحكم السياسات الاقتصادية التي أنتجها نظام الإنقاذ البائد، يضاف عليها إجراءات 25 أكتوبر، التي اتخذها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان.
10
في فلذكة تاريخية للوضع المعيشي، تقول تقارير إعلامية سابقة، بلغت تكلفة المعيشة في العام 2003م، حوالي (445) جنيهاً، في حين كان الحد الأدنى للأجور (75) جنيهاً، فيما بلغت في العام 2004م، (124) جنيهاً، و(167) جنيهاً، في العام 2005م، مع ارتفاع قليل في العام 2016م، لتبلغ (200) جنيه.
ووفقاً للإحصاءات حدَّد ديوان الزكاة في العام 2018م، نسبة (97%) من العاملين بالدولة لا يخضعون لزكاة ويضع لها أصحاب المرتبات التي تبلغ (20) ألف جنيه، و(575) جنيهاً، وما فوق، ما يعني عدداً كبيراً من العمال بمختلف مستويات الدخول تحت خط الفقر نسبة أن القفزة في الأسعار كبيرة ومتواصلة مقابل مرتبات ثابتة وضعيفة.
11
ويقول القانوني عماد رابح، إن غياب ديوان شؤون الخدمة والمجلس الأعلى للأجور وراء الأزمة التي تعيشها البلاد في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور، وأضاف، في الزمن الذي أصبحت فيه هذه المؤسسات مجرَّد لافتات مسلوبة الإرادة فاقدة للصلاحية والفعالية، تشهد البلاد اضرابات العاملين في القطاع العام في مؤسسات ووحدات مختلفة بسبب تدني الأجور والمرتبات التي لا تكفي حتى قيمة الرغيف مع الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية والخدمات.
وتابع وهو ما ساهم في رفع حجم التضخم، فيما يشتكي العاملون في القطاع الخاص ولا بواكي عليهم ولا سلاح الاضرابات يتاح لهم، وعزا أسباب الأزمة إلى عدم توفر النقود وعدم امتلاك الحكومة سياسات من شأنها تؤدي لتخطي المرحلة.
12
عزا الخبير الاقتصادي سعد محمد أحمد، الأزمة إلى ما أصاب البلاد من سياسات فاشلة طوال الثلاثة عقود الماضية، والتدمير الممنهج للخدمة المدنية وبالتالي مؤسساتها، ما أدى إلى الاختلال الكبير في مؤسسات الدولة من ضمنها ديوان شؤون الخدمة ووزارة العمل والمالية ثم المجلس الأعلى للأجور الذي يعنى بوضع سياسات التشغيل ووضع سياسات للأجور والمرتبات وفق معايير واضحة ومحدَّدة،
منادياً بتوظيف نهج يساهم في تحقيق توازنات في احتياجات العمال وأسرهم، ومراعاة العوامل الاقتصادية مع إدخال تعديلات منتظمة في الحد الأدنى للأجور بما يكفل مراعاة تكاليف المعيشة وغيرها.
13
أضاف سعد، يعتبر الحد الأدنى أحد العناصر التي يتم إدراجها في السياسات التي يتم تصميمها بغرض التغلُّب على الفقر والتحقق من تلبية احتياجات العاملين مع إعداد وتطوير مؤسسات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، مضيفاً أن سياسات الأجور على حد سواء تحدِّد بما يكفل حد أدنى من الدخل لصالح الأسر.
وطالب بمشاركة نقابات العاملين أو الأشخاص المعنيين بتمثيل المصلحة العامة في وضع سياسات الأجور مع أصحاب العمل وزارتي المالية والعمل وكل أصحاب الشأن في وضع سياسات الأجور والمرتبات وشروط العمل الجيِّدة بالإضافة إلى تحديد دوام ساعات العمل وثبات الوظيفة وفرصة الترقي وتوصيف الوظائف والأعمال لإزالة الغبن والاحتقان الحاصل للحد من الفساد والرشاوى بسبب الاختلال في الأجور التي يعاني منها جل العاملين في القطاعين العام والخاص.
14
أمر الأجور وفقاً لسعد أصبح
خارج السيطرة بسبب السياسات العشوائية التي منح بموجبها أصحاب الأصوات العالية المهدَّدة والمؤثرة سياسياً في زيادة الأجور حتى داخل المؤسسة الواحدة، ناهيك بين الوحدات الحكومية ما أربك الخدمة المدنية وباتت الإضرابات السلاح الفتاك الذي عطل دولاب العمل، منتقداً اتجاه الدولة لطباعة (البنك نوت) لزيادة الأجور، وقال لـ(الصيحة)، إنها سياسة من لا يملك البديل وسهلة إلا أنها ستشكِّل كارثة اقتصادية في السياسات المالية والنقدية، مؤكداً أنها خاطئة وتؤدي إلى تضخم كبير ومستقبلياً إلى انهيار الدولة اقتصادياً في المدى المنظور، وأردف ربما تؤدي إلى إفلاس الدولة في المدى البعيد، وشدَّد على إيجاد حل علمي توافقي فيه عدالة لكل الأطراف خاصة العاملين داخل المؤسسة الواحدة والدرجات الوظيفية في الدولة وبين القطاع العام والقطاع الخاص لإزالة المظالم والغبن لتوفير حياة كريمة للعاملين، متابعاً أن إصلاح السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية وربطها بالإنتاج تعود بالنفع للعاملين والبلاد بالتالي تقضي على كل الإشكالات وتزيل حالة الاحتقان في الأجور والمرتبات، ويرى أن زيادة الأجور في ظل هذا الوضع الاقتصادي تعتبر مخدِّر موضعي سرعان مايفتك بالبلاد .
15
بين عجز الدولة تحسين الأجور وترغُّب العاملين بحياة أفضل، تشير ديباجة دستور منظمة العمل الدولية بأنه ما من سبيل لإرساء السلام الشامل والدائم سوى في حالة ارتكاز هذا السلام على أسس العدالة الاجتماعية، ونادت الديباجة بضرورة توفير أجور تكفل ظروف معيشية ملائمة، وركزت على أهمية ضمان حد أدنى للأجور يكفي لوضع معاشي لائق وتحقيق الاستقرار الاجتماعي الذي يحفظ للعامل مستوى حياة معيشية مستقرة، ويعمل على نمو القوة الشرائية وضمان الأجر المتساوي للعمل المتساوي.
16
الخبير الاستراتيجي د. عادل عبد المنعم، قال لـ(الصيحة):هناك تناقضات في الهيكل من فيئة إلى أخرى، وهو غير مناسب، مشيراً إلى استفحال فجوة الغلاء، في ظل تلاشي الجنيه ووصول الدولار إلى قيمة تراوحت بين (1800- 200) قال: هذه هي القيمة الحقيقية وليست التبادلية.
أكد أن ذلك ملموس في الأسواق ما يعني أن تراخي الجنيه سبق القيمة التبادلية في السوق ما سبب الغلاء.
وأضاف: أصبحت الحياة المعيشية لموظفي الخدمة العامة صعبة في ظل ارتفاع أسعار الكهرباء بصورة فلكية وغير مستقرة، موضحاً أن مشكلة الكهرباء أنها تقاس بأسعار الشركات الأوروبية.
17
وقال د. عبد المنعم: أوجد الغلاء وتلاشي الجنيه، فئات تطالب بهيكلة راتبها مقابل عدم مقدرة الحكومة على الحلول،
مشيراً إلى كميات كبيرة من الأموال الافتراضية خارج البنوك يبحث لها عن بديل، وإلى مخاطر التطبيقات البنكية وإسهامها في الحد من مقدرة الحكومة على طباعة النقود، مؤكداً إسهام التطبيقات في التضخم.
ونوَّه إلى أن التحصيل الإلكتروني عطَّل حياة الناس، لأن البنية التحتية غير مناسبة والحكومة محتاجة لتوفير رواتب لمجتمع مازال نقدياً، مشدِّداً إلى الانتباه لمثل هذه القضايا.