عبد الله مسار يكتب: أيها العُنصريون توقّفوا.. أفسدتم علينا وطننا
5يونيو 2022م
كتب الأخ محمد الحسن محمد عثمان
قال حكى لي أحد الأطباء الجراحين، إنه جاء لدراسة في جامعة الخرطوم أواخر السبعينات. وكانت هذه هي زيارته الأولى للخرطوم، بل كانت الأولى التي يغادر فيها قريته القريبة من مدينة النهود، قال لي حضرت الى الخرطوم وفي يدي متاع قليل وبضع جنيهات وهي كل المبلغ الذي استطاع والدي عامل اليومية البسيط أن يتدبره لي.
وكنت أكبر إخواني في عائلة تضم (7) من الأخوات والإخوان بعدي، وشاء الله أن يهبني ذكاءً فطرياً، فتفوقت في دراستي رغم بساطة مدرستي وظروفي.
ويواصل، عندما تم قبولي في كلية الطب، كنت بين خيارين فقد كنت مدركاً لظروف والدي المادية، ومصاريفي الدراسية كانت سترهقه، فهي زيادة عبء عليه لن يستطيع تحمُّله، وكان إما أن أبقى وأساعده في تربية إخوتي أو أذهب الى الدراسة، فاخترت ووالدي أن أذهب للدراسة ونتركها لله سيديرها. قال لي عانيت الأمرين، في مدينة ليس لي فيها أحدٌ.
وكان لا بد أن أساعد نفسي وأتحمل نفقاتي الدراسية والشخصية، وعملت في مهن هامشية، غسّلت الأواني في مطعم، وبائعاً للصحف، وكنت أذهب راجلاً لأوزع الصحف على بعض المحلات التجارية حتى اعتمد عليّ أصحاب هذه المحلات في إحضار الصحف إليهم، وكان صاحب أحد المحلات طلق المحيا، بشوش الوجه ينادونه (حاج مختار)، كريما معي، يعطيني أكثر من ثمن الصحيفة، ويُعاملني برفقٍ شديدٍ.
يواصل، وكان أن تغيبت في واحدة من المرات عن إيصال الصحف إليهم لظروف الامتحانات، وعند عودتي سألني هذا الرجل اللطيف عن سبب غيابي؟ قلت له كان عندي امتحانات.
سألني بدهشة أنت طالب؟
قلت نعم.
قال أين تدرس؟
قلت كلية الطب جامعة الخرطوم.
سكت الرجل حتى ظننت إنه لن يتحدّث معي مرة أخرى وقد ظهر على محياه تأثُّرٌ شديدٌ.
وبعد فترة من الصمت، أمسك بيدي وقال تعال أقعد جنبي، قال لي يا ولدي أنا ما بعرف غير اسمك، ولكني لا اعرف من أين أنت، ولكن أعجبني كفاحك، كدي اقعد واحكي لي عن نفسك..
وباختصار أخبرته قصتي.
قال لي والله الذي لا إله غيره لن تبيع صحيفة بعد اليوم، نفقة دراستك عليّ حتى تتخرّج وأكثر.
حاولت الاعتراض، فقال يا ولدي إنت في السنة الأولى، وما تفعله الآن قد لا تستطيع فعله بعد السنوات الجاية، وقد أنعم الله عليّ بمال كثير فاسمح لي بمساعدتك، ولست صاحب فضل عليك، بل أنت صاحب فضل عليّ.
قال وقد كان، فكان حاج (مختار) أباً وصديقاً وأخاً وناصحاً، وكنت أعمل معه في إجازة الجامعة لمساعدة أبي في تربية إخوتي، وكان يقول لي هذا العمل لمساعدة أسرتك، أما نفقاتك فعليّ.
وقال لي بتأثُّر في إحدى المرات، جاء لزيارتي في الكلية وهو يحمل مراجع الطب، فاندهشت كيف عرف ما احتاجه من المراجع، وعندما سألته قال لي إن لي صديقاً أستاذاً في الكلية وقد سألته عما تحتاجه من مراجع، ثم أردف قائلاً كنت أعرف أنك لن تخبرني فتصرفت بنفسي لم يكن ينتظر لأخبره ما احتاج، وكان يتكفّل بمصاريفي وكسوتي وحتى تذاكر سفري لأسرتي وعودتي، وكذلك هدايا لأسرتي، أغرقني بفضله وبمحبة كبيرة، واستمر برعايتي حتى تخرجي وبداية عملي، وعندما أقسمت عليه أن يتوقّف، فتوقّف على مضضٍ، وان كنت أجده عند أي احتياج وكان يفرحه لجوئي إليه، كان حاج مختار بهذه الروعة، واستمرّت علاقتي الوثيقة به وبأسرته حتى وفاته.
عندما علمت بمرضه وكنت قد بدأت عملي بالخليج، وركبت أول طائرة فور سماعي بالخبر ولفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي، وبكيته كما لم أبكِ أحداً في حياتي.
هذا الرجل وهبني الحياة، هذا الرجل كان سبباً في إحساسي بالآخرين، وكان هو السبب في أي نجاح علمي حقّقته في حياتي، لأني لم أكن أريد أبداً أن أخذله، وكنت أريد أن يرى ثمرة فضله عليّ، كان هذا الرجل هو السبب في أي خير قدّمته في حياتي، كان هذا الرجل هو السبب في أن أخصص جُزءاً من راتبي الشهري في رعاية الطلاب المُعسرين، وكان هذا الرجل هو السبب في أن أصبح إنساناً أفضل وزوجاً أفضل وأباً أفضل نافعاً لنفسي ولمجتمعي ولوطني.
صاحب هذه القصة الدكتور جمال أحمد الصافي، الذي كان يسكن الغرفة ٨٥ في داخلية الرازي، وهو من منطقة النهود، والرجل الذي كفله وقدّم له كل هذا الخير، هو الحاج مختار الفاضل داؤود دنقلاوي من منطقة جزيرة لبب دنقلا، كان يسكن في بيوت الأشلاق خلف داخلية حسيب والرازي، وكان يرحمه الله لديه دكانٌ صغيرٌ خلف فندق التاكا.
أيُّها السُّودانيون هذا هو السودان في الزمن الجميل، قبل أن يظهر العنصريون الذين أفسدوا علينا وطننا وبلادنا.
أيُّها العُنصريون الجُدد توقّفوا قد أفسدتم علينا وطننا. إن مثل الحاج مختار كثرٌ، وإن أمثال الدكتور جمال كثرٌ لم يذكرهم التاريخ، لأنّ السودان كله كان كذلك وطناً واحداً وشعباً واحداً وأمة واحدة وجسداً واحداً.