“مُكالمة واتس آب”
الانقطاع السياسي الأخير الذي طَالَ خَدمات الإنترنت بالبلاد ترك أثراً ذا وجهين دُون شك. الأول الأثر السّالب الذي أعادنا سنوات عديدة نحو الوراء لنُمارس بعض العادات البدائية في تسيير شؤون الحياة، ومنها على نحو شخصي كَوني عُدت للكتابة الورقية لهذه المَقَالات، فاكتشفت أنّ يدي لم تعد تقوى على رص العبارات، وأن خطي لم يعد كما كان، وحتى إن انسياب الأفكار على الورق أصبح مُتعثِّراً أو إن شئت الدقة مُتحجِّراً.. إلى جانب ما نُعانيه جميعاً من صُعُوبة في اتّخاذ العديد من الإجراءات الإلكترونية التي كانت تجعل حياتنا يسيرة لا سيما المُعاملات المالية عبر التّطبيقات في ظل نُدرة الكاش وأوراق البنكنوت.
أمّا الجانب المُشرق للأمر فيتمثل بالنسبة لي في شفائي من الإدمان القاتل على مُعاقرة “الفيسبوك”، الذي اكتشفت الآن أنّه كان يشحنني بالطاقة السالبة ويُسلِّمني للعديد من الأكاذيب والشائعات والضغوطات النفسية.
هذا الإنترنت المُهيمن يقتات من دمنا وأرواحنا.. ويأكل أيامنا, فتجد نفسك قد أنفقت ساعات يومية طويلة في التّصفُّح والمُتابعة والتّعليق والمُناقشة والمُهاترات دُون فائدة تُذكر.!
وأرجو الله أن يعينني على الصمود حالما عَادت الخدمة للانتظام وعادت الأسافير لضجيجها القديم، فقد تمكّنت في الفترة السابقة من أداء العَديد من المَهام المُؤجّلة وعُدت لقراءة الكتب واستنشاق رائحة الورق الحميمة واستعدت توازُن أيّامي, وبارحت فراشي الوثير الذي أدمنت التّمرُّغ فيه وأنا مُتشبِّثة بهاتفي مُتسمِّرة النظرات على شاشته المُضيئة المُؤذية.. كما أنّني تعرّفت عن قُرب على أُسرتي الصغيرة بشكلٍ أعمق، وأدركت حجم تقصيري العظيم في حقهم وحَق نفسي حين حَرمتها من رفقتهم ومُسامرتهم لأجل وجوهٍ إسفيرية كاذبة.
بيد أنّني بالمُقابل ورغم مُحاولاتي لاستخلاص الجوانب الإيجابية لذلك الانقطاع الغريب وغير المُبرِّر، تجدوني افتقد ذلك الوصل الحميد مع أحبابي خارج حدود الوطن، والذي كُنّا نستعين فيه بالمكالمات الإسفيرية الطويلة عبر مُختلف التطبيقات توفيراً لمبالغ طائلة كانت سَتنفق خلال الاتصال المُباشر عبر الشّبكات العادية.
لَقد كَانت تلك المُحادثات تُوفِّر لنا ما يَلزم من إشباعٍ نفسي وارتواء عَاطفي ومَشورة وتَفاكُر ودعم وأريحية وفرح ومُواساة وتهانٍ ومعرفة للأخبار وتعاون واطمئنان.
ثمة مُحادثات لم يكن بالإمكان أن تخرج منها سَالماً في ما يتعلّق بالوجدان.. فهناك المُحادثة التي تختلق خلالها ألف حكاية وتتشبّث بها حتى لا تنتهي من فرط حلاوتها.. وهناك المُحادثة التي تَضحك فيها أكثر مِمّا تتحدّث وأن تستعيد ذكرياتك القديمة وعُمرك الضائع.. وهناك المُحادثة التي ينبض فيها قلبك ألف مرّة في الدقيقة وتخرج الحروف من فمك ورديّة مُعطّرة.. وهناك المُحادثة التي تشحذ فيها ذهنك بالمعرفة والمعَلومات.. وهناك المُحادثة التي تنتهي ولكن يبقى أثرها طويلاً داخل رُوحك.. وينعكس على مَلامحك وَصَوتك وسُلُوكك.. وهناك المُحادثة التي تمنحك الطاقة والقُـــــوة لتصمد في وجه الأحداث المُحيِّرة التي تكتنف البلاد وتنهك العباد.
* تلويح:
يَا صَـــــوتَــــــهَا لَمَّـــــا سَــــــــرَى..!!