أمس، بقاعة الصداقة كان لقاءً فاصِلاً وفارِقاً بالنسبة لقضية جنوب كردفان، وسيمتد لكل مناطق الحرب في البلاد، إذا كانت الإرادة السياسية والوطنية والرغبة بهذا المستوى الذي ظهرت به قيادات جنوب كردفان، وتجاوُب القيادة السياسية ممثّلةً في نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو، الذي استهلّ مهامَه التي تسلّمها بقيادة وإدارة ملف التفاوُض مع المجموعات والحركات المسلحة، بلقاء الأمس بقاعة الصداقة مع رموز وفعاليات وزعامات جنوب كردفان، كانت الروح الغالبة هي للسلام ومن أجله، وسيكون لهذا اللقاء انعكاسات إيجابية في الفترة القريبة المقبلة، وستؤتي أُكُلها إذا سارت الأمور كما هو مُخطّط ومرسوم لها مع صدق النوايا وإخلاص المسعى.
ملف السلام هو من أمّهات الملفات والقضايا في البلاد، ولن تستطيع أي سلطة تحقيق الاستقرار والازدهار والتقدّم الاقتصادي وحل مشكلات البلاد، إذا لم تتقدّم صوب السلام وتحقّق اتفاقيات شاملة تُسكِت فوهات البنادق وتحقن الدماء وتُجبِر الخواطر والضرر، وتُشعر السودانيين جميعاً بالعدالة والأمان والمساواة وتكافؤ الفرص، وتفتح الطريق نحو التنمية وإزالة التخلّف الخدمي، فبالسلام فقط تستقر الأوضاع وتُغسَل البطون والقلوب كما يقول أهلُنا البسطاء، وتُزاح عن كاهل السودانيين جميعاً مشاعر البغض والكراهية والغبن والحيف والحنق والمرارات العالقة كغصصٍ في الحلوق.
ويبدو أن توجّهات المجلس العسكري، كما أشار الفريق أول محمد حمدان، هي للتنمية الشاملة كالطرق وتطوير المشروعات الزراعية، وتأهيل مرافق البنى التحتية كالطاقة والمياه والمطارات والسدود والمراعي، وتوفير الخدمات التعليمية والصحية والمياه والكهرباء، وهو ما فقدته مناطق جنوب كردفان، والنيل الأزرق ودارفور، وبعض مناطق شرق السودان في سنوات الحرب والمواجهات والأزمات السياسية التي تحوّلت إلى حروب طاحنة.
وتبدو الآفاق الآن مفتوحةً بالكامل، وتدعو للانطلاق نحو الحُلُم القريب البعيد، فالحركات المسلحة، وخاصة الحركة الشعبية قطاع الشمال بجناحيها في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق، وفصائل حاملي السلاح في دارفور، تلقت الرسائل الإيجابية التي أرسلها المجلس العسكري الانتقالي من يومه الأول، حيث سرَت بين الجانبين اتصالات هاتفية، وموفدون ومبعوثون ورسائل مهّدت الطريق، وستقود حتمًا ولا محالة إلى اتفاق وتوافُق كامل يتحقق به السلام المنشود، فلا رغبة من كل الأطراف في استمرار القتال، لقد سئمت الحربَ وليس هناك من طرف عرَف أهوالَها يمكن أن يتمنى استمرارها، ولا توجد بيئة إقليمية ولا مناخ دولي يزيد من اشتعال نارها.
من ما زاد من الفرص المتاحة اليوم، أن حائط الثقة المتين الذي تماسكت مداميكه بين المجلس العسكري الانتقالي والحركات المسلحة، فتح العقول والأبواب لتبادُل الآراء والأفكار، وبعث الاطمئنان وسيُسرّع من التفاهُم المُتبادَل، لقد تمّت تدفئة الخطوط بينهم وسلكت الدروب، وسيصبُّ ذلك في الصالِح العام للوطن، ولا مناص من المضي بأعجل ما تيَسَّر في إنجاز مشروع سلام وطني شامل، تضع فيه الحربُ أوزارَها ويتخلّى فيه حاملو السلاح عن بنادقهم ويختارون بيادِر الوطن بدلاً من ساحات القتال وميدان الوغى.
وسنسمع قريباً عن بداية النهاية للحرب، وستكتَمِل مسيرة السلام بالاتفاقيات التي ستُبرَم، وستختفي أجندة الحرب وأباطرتها وسماسِرتها، والسلام السوداني – السوداني الخالص، أقوى وأكثر رسوخاً وثباتاً من كل المحاولات التي كانت تسعى فيها أطراف خارجية تعمل كما هو معلوم على التوسّط بين السودانيين لطي خلافاتهم وإنهاء حروبهم، فالفرصُ اليوم أكبر وأوسع، لأن الإرادة الوطنية موحّدةٌ الآن وصلدة، والتفاهُم موجود وفاعل، والحكمة السودانية حاضرة تطول قامتُها ولا تتقزَّم.
أمامنا جميعاً سانحة تاريخية يجب أن نعمل من أجلها، حتى لا تفلت من بين أيدينا، إذا ضاعت فلن تتكرّر أو تعود مرة أخرى، لا معنى للالتفات للوراء ولا الانغماس في الخلاف السياسي العقيم مع الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تتصارَع على أسلاب الوطن المُمزّق بالخلافات، فماذا يُضِيرُنا جميعاً لو تركنا الاحترابَ حول نِسب المُحاصَصة في المجلس السيادي والحكومة الانتقالية والمجلس التشريعي، واتّجهنا بِنيّة صافية وصادقة لشن عملية السلام وجلب الأمن والطمأنينة لبلدنا المُنهَك بالحرب وتوحَّدنا من أجل السلام…؟