أشياء متناثرة
عندما فجعت اتفاقية أوسلو الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، لم يجد تعبيراً يمزق الكبد ويطعن العرب المهرولين لتقديم أرضهم للإسرائيليين مقابل السلام من القول “لقد أصبحت بلادنا امرأة مباحة فألف تشكرون”, وحينما انعقد مؤتمر للمعارضة السودانية في أسمرا عام 1995م عرف حينذاك بمؤتمر أسمرا للقرارات المصيرية وحضر جون قرنق تحفه هالة من الضوء وبريق النضال، وجاءت قيادات المعارضة من العواصم.. وقف الراحل أبو القاسم حاج حمد يحدق في الساحل الإريتري، وفي وجوه الناس ويقرأ في دفتر توصيات المؤتمر التي وصفت جزافاً بالقرارات، فقال كلمته وخرج من المؤتمر “اليوم أدركت أن السودان قد صار يتيماً بلا أب”, كان السفير الأمريكي حاضراً والألماني ناشطاً والبريطاني متحدثاً والغائب الوحيد كان الشعب السوداني الذي يربط بطنه بحبال الصبر.. ولو عاش الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، حتى عصر قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري لمات “بالفجأة” وتلك ميتة استعاذ منها الرسول صلى الله عليه وسلم.. كيف لا يموت صاحب “السودان المأزق التاريخي” وقوى الحرية والتغيير تطير يوم أمس الأول إلى أديس أبابا تشكو شريكها في الفترة الانتقالية المجلس العسكري لمفوض في الاتحاد الأفريقي اسمه موسى فكي بعد أن تواطأت النخب السودانية مرة أخرى ودفعت بعجزها عن احتمال بعضها إلى الخارج، مثلما فعلت حينما عقدت مؤتمر أسمرا الذي أقر حق تقرير المصير لجبال النوبة، وفتح بذلك أول باب ليلج منه الانفصاليون لتمزيق وطن عجزت نخبه أن تستوعب دروس الانفصال في بلدان بالقرب منا..
انتقلت قضية النزاع بين المجلس العسكري وتحالف قوى الحرية والتغيير من القيادة العامة وميدان الاعتصام إلى القصر الرئاسي، حيث جرت المفاوضات الابتدائية، وتحت أضواء القصر الجديد الذي شيده الصينيون للبشير في آخر أيام شهر العسل بين الخرطوم وبكين، انتقلت المفاوضات لأحياء العاصمة القومية ودور الأحزاب في شمبات كان لقاء الفريق ياسر العطا واللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي أساءت فيه الدكتورة إحسان فقيري الأدب مع الجنرال الذكي.. وفي دار حزب الأمة والمؤتمر السوداني بدأت خطى الافتراق.. ثم بعد ذلك انسدت دروب التواصل لتنتقل الاجتماعات لفنادق العاصمة الخرطوم ومقار سفارات الدول “الوصية” على السودان.. ونشط “الكفلاء” والأصدقاء والقضية تخرج شيئاً فشيئاً من أيادي السودانيين وتدخل أثيوبيا وسيطاً بذات طريقتها السابقة حينما طرح وزير خارجيتها سيوم مسفن عام 1994م وثيقة إعلان المبادئ لحل النزاع في جنوب السودان، وبعد 25 عاماً تعود أثيوبيا وسيطاً بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري..
وإذا كانت الولايات المتحدة والنرويج وبريطانيا، قد “أقحموا” أنفسهم في الشأن السودان حينذاك كشركاء لمنظمة الإيقاد التي تخلت عن تخصصها في القضاء على الجراد الصحراوي لتستثمر في النزاعات المسلحة, فالولايات المتحدة اليوم “تدخل” في خط “الوسطاء” والقضية تتجه لمجلس الأمن الدولي.. والأمم المتحدة في انتظار صدور قرارات إدانة لأعضاء المجلس العسكري “لتخويفهم” ومحاولة تركيعهم بعد إذلالهم، وتتراكم في الصدور “دخاخين” المعارك، وحميدتي يشير لشركاء بيده “ديل ديل”!! وصديق يوسف ينتظر رعاة البقر الأمريكان للانتقام له من أبناء وطنه، ويعود مشهد المواجهة بين العسكر والمجتمع الدولي ويتأجل الحل.. ونعود للحصار مرة أخرى ويدفع الشعب ثمن طموحات النخب التي “تدوس على السودانيين جميعاً بعصا غليظة”..
وما أشبه الليلة بالبارحة.. لو كانوا يعقلون..