المجلس العسكري وقوى التّغيير.. التّوقيع الأخير أم للقصة بقية؟
تحليل: محيي الدين شجر
المُتتبِّع لمُجريات الأحداث السِّياسيَّة الجارية الآن وبعد توقُّف التفاوُض بين المجلس العسكري الانتقالي وقِوى إعلان الحرية والتغيير، يرى وبوضوحٍ لا لبس فيه أنّ المجلس العسكري الانتقالي يسير في اتجاه تشكيل حكومة كفاءات قد تتضمّن جُزءاً من مُكوِّنات الحُرية والتّغيير أو حكومة كفاءات بمعزلٍ عنهم.. والذي يقرأ مسيرة المجلس العسكري وتَصريحاته يَفهم أنّه يُخطِّط لاكتساب تأييدٍ شعبي وتفويضٍ يُمكنه من إعلان حُكومة لتسيير العمل، على أن يظل المجلس العسكري الانتقالي في مَوقعه لمدة سنتين ومِن ثَمّ تشرف الحكومة المُعيّنة على الانتخابات.. ولهذا فإنّ دعوة المجلس العسكري لقِوى الحرية والتغيير بالعودة إلى التّفاوُض هو النداء الأخير للمجلس قبل أن ينطلق من مَحَطّته.. حينما كان القطار هو الوسيلة الأنجع والفَاعلة للسُّودانيين في ذلك الزمان الجَميل للسَّفر والتِّرحال، تَعَوّدَ الرُّكّاب على صَوت الجَرس من ناظر المَحطة تنبيهاً للقطار بالتّحرُّك، ثُمّ تعوّدوا أن يسمعوا صوت الديزل أو البابور مُطلقاً صافرة طويلة إشارة لقُرب تحرُّكه.. عندها يسرع الرُّكّاب بالركوب كلٌّ في قمرته أو درجته، وكان القطار يُقسّم إلى درجة أولى ودرجة نوم ودرجة ثالثة ودرجة رابعة، وفي نهاية القطار كانت هنالك عربة يُطلق عليها بالفرملة.
في مرّاتٍ كثيرةٍ يفشل البعض في اللحاق بالقطار رغم سماعه لصافرته ولرنّة جرس الناظر، إما لأنهم ذهبوا إلى مكانٍ بعيدٍ بحثاً عن إفطار في منطقةٍ خلويةٍ، أو لأنّهم استهانوا بصحة نداءات القطار المُتكرِّرة والتي كما قلت كانت في جرس الناظر، وصافرتان للوابور، الأولى قصيرة، والثانية طويلة للتأكيد بأن القطار سينطلق.
وأظن أنّ المجلس العسكري وبعد دعوته لقِوى الحُرية والتّغيير بالعودة للتفاوُض مرة ومرتين، أطلق جرس الناظر وصافرة الوابور الطويلة، وبعدها سينطلق في مسيرته غير آبهٍ لشروط قوى الحرية والتغيير التي وضعتها للعودة إلى التّفاوُض .
وإذا صدقت الأخبار التي تتحدّث عن انشقاقٍ في تلك القوى وقبول حزبي الأمة القومي وحزب المؤتمر السوداني للمُشاركة في الحكومة، التي يزمع المجلس العسكري الانتقالي تكوينها، فإنّ ذلك سيُشكِّل ضربةً مُوجعةً لمُستقبل الحُرية والتغيير لن تفيق منها إلا بعد وصول القطار إلى محطته النهائية.. إلا أنّ الواقع يستبعد هذه الأخبار ويشير إلى أنّ الحزبين مُتمسكان بالبقاء ضمن المنظومة .
ولهذا سارع تجمُّع المهنيين بعقد مؤتمرٍ صحفي، تَحَدّثَ فيه محمد الناجي الأصم الناطق الرسمي للتجمُّع، مُطالباً بتهيئة الأوضاع للعودة الى التفاوُض من جديد بعد أن كان تجمُّع المهنيين وقِوى إعلان الحرية والتغيير هم من يتحكّمون في مَسارات التفاوُض قبل توقُّفهم في محطة مجلس السيادة وإصرارهم بمدنيته.
إنّ إصرار إعلان قِوى الحُرية والتّغيير على تمسُّكهم بالاتفاق مع المجلس العسكري، والذي نالوا بمُوجبه 67% من عُضوية المجلس التشريعي، وأن تقع عليهم وحدهم مسؤولية تكوين الحكومة بما فِيها اختيار رئيس مَجلس الوزراء، وصفه المُراقبون بأنّه بغير معنى، لأن نقض الاتّفاق من جانبٍ واحدٍ ينسفه ويجعله مُنعدماً، ولقد أعلن المجلس العسكري تراجعه عن الاتفاق صراحةً، كما أنّ حديثهم هذا وصفته القوى السياسية الأخرى بأنه يُشير إلى هوان أصاب جسدهم.
صحيحٌ أنّ قوى الحرية والتغيير هي من قادت الثورة وبخاصّة تجمُّع المهنيين، إلا أنها لم تستفد من الظروف الثورية التي توفّرت لها وظنّت أن استجابة المجلس العسكري لمَطالبها خوفاً وأرادت المزيد ..
إنّ أكثر المُتفائلين قبل سُقُوط نظام الإنقاذ كان يتمنّى إقالة البشير وحده.. وكان كثيرون يحلمون برئيسٍ غير مطلوب دولياً، وذلك لفتح آفاقٍ للاستثمارات الأجنبية ولفك الحظر الاقتصادي المَفروض على السُّودان وللخُرُوج من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ولكن بعد استيلاء المجلس العسكري على السُّلطة، تَمَدّدت المَطالب ووصلت إلى أقصى مَدَاها بالمُطالبة بدولة مدنية دُون وضع اعتبار للواقع السِّياسي السُّوداني وللمُعطيات التي جعلت قيادات من القوات المُسلّحة ومن الدعم السريع تنحاز إلى الثورة ووجودها في أعلى السُّلطة أصبح واقعاً مفروضاً بحُكم أنها بين نارين، نار المؤتمر الوطني الذي أطاحت به، ونار البقاء في السُّلطة تأميناً لنفسها من تقلُّبات السِّياسة.
غير أنّ قيادات الحُرية والتّغيير أعتقدت أنها من استولت على السلطة ولولاها لم حَدَث التغيير، مع أنّ تحليلات كثيرة ذكرت أن دخول الثُّوّار إلى القيادة تمّ بتخطيطٍ مُحكمٍ من جهات كانت تُخطِّط لإحداث التّغيير واستفادت من الحِراك الثّوري ووظّفته لصالحها.
إنّ أحلام الشباب تتمحور في تكوين حكومةٍ مدنيةٍ وكل العالم ينتظر حكومة مدنية في السُّودان، ولكن مُشوار الألف خطوة يبدأ خطوة خطوة، والقفز فوق المُعطيات يقود إلى الخلافات.
لقد أكدت قيادات الحرية والتغيير بأنها ستمضي في طريق الثورة إذا استبعدها المجلس العسكري من خياراته القادمة، والتي أشار إليها بتكوين حكومة تصريف أعمال، ولكن هذه الخطوة أيضاً قد تجد التأييد من الثُّوّار أنفسهم إذا نَجَحَ المجلس الانتقالي في تكوين حكومة من سُودانيين لم يُجرِّبوا من قبل.. وقد تجد الرفض العنيف إذا ما قرنت قِوى الحُرية والتّغيير قولها بالعمل، وشَرَعت في التظاهرات من جديد .
وطريق الثورة الذي ستسير فيه قِوى إعلان الحُرية والتّغيير سيجعل السودان غير مستقرٍ، ويعيد السودانيين من جديد إلى صراع قد ينسف ما تبقى من الجسد المُنهك!!
لقد ذكر الناطق الرسمي باسم تجمُّع المهنيين، أنّهم لن يعودوا إلى التفاوُض إلا بعد إجراء تَحقيقٍ مُستقلٍ في أحداث التاسع والعشرين من رمضان الماضي المُوافق الثالث من يونيو الحالي، وبعد إطلاق سراح المُعتقلين وفك الحظر المفروض على الإنترنت، مُشيراً إلى أنّ تكوين حكومة من طرفٍ واحدٍ لن يحل المُشكلة، بل يُعقِّدها وسَتُواجه الحكومة المُكوّنة صُعوبات كبيرة في عملها.
في حين صرّح كباشي الناطق الرسمي للمجلس العسكري، أنّ الإجراءات التي قاموا بها تمثل الحد الأدنى للعودة الى التّفاوُض.
ولهذا فإنّ المنطق يتطلب الهُدوء والتّفكير بجديةٍ، ووضع كل المُعطيات على طاولة التّفاوُض والتَّأنِّي قبل أيِّ قرارٍ أحادي.. وهذا ما فَطِنَ إليه المجلس العسكري ونراه واضحاً في حديث نائب رئيس المجلس العسكري الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” في لقائه بوفود من الإدارة الأهلية وهو يقول: لا نُريد قيام تظاهرات مجدداً تؤدي إلى الفتنة.. لا نريد أن ننفرد برأي وتقوم التظاهرات وسنجلس مع الشباب لمُحاورتهم بشأن مصير ومُستقبل البلاد .
إنّ حَديث نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو يتّفق مع حديث رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان أمام المهن الصحية والطبية أمس الأول، وهو يُؤكِّد أنّ أبواب المجلس مفتوحة للحوار مع إعلان الحُرية والتّغيير دُون شروطٍ.
إنّ الوصول إلى اتّفاقٍ في أيّة قضية لا يُعد من المُستحيلات، وبَعد أن اتّضحت الصورة كاملةً لكلا الطرفين، فإن المأمول أن نشهد كرنفالات الفرح تنطلق وتعم كل رُبُوع السُّودان.