10 مايو 2022م
في البدء استميح القارئ الكريم عذراً بأن نستريح في هذه التدوينة عبر مقتطفات محدودة من ديوان سيد شعراء الضاد وإمام صناع القوافي أحمد بن الحسين الكندي (المتنبي).
وهي مجرد وقفات للتأمل والترويح لأصحاب الذائقة الشعرية والمهتمين بترف المفردة وتمدد ظلال النص الإبداعي وإيحاءاته الوثيرة. وقد يقول قائل ماذا ترك أهل الاختصاص لواحد من الهواة في دنيا الأدب وفضاءات الشعر ليقوله في حضرة المتنبي. أقول نعم ولكن رغم ذلك لا أرى ضيراً في محاولة ابتدار شئ من الأنس والمدارسة حتى لو كانت تلك الخواطر من شاكلة ما وصف به المتنبي شوارد شعره
أنام ملء جفوني عن شواردها * ويسهر الخلق جرّاها ويختصموا.
ولتكن هذه التدوينة من باب (السهر جرّاها). وعلى الرغم مما جادت به قريحة المتنبي من عيون الشعر العربي في مجال الفروسية والفخر والمدح والحكمة والهجاء ما فاضت به المناهج الدراسية والتداول العام، فإن للمتنبي لمسات مترفة الثراء في مجال التصوير الفني للبيئة الطبيعية والنسيب والبوح العاطفي ووصف المرأة.
وهي لمسات تطل من بين ثنايا الديوان هنا وهناك مُفعّمة بالحيوية والعمق وروعة التصوير. وذلك خلافاً لما كان يقال لنا ويُشاع عنه بصورة عامة ان شعر المتنبي يكاد يخلو تماماً من البعد العاطفي وعلى طريقة
أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني * هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ
ومن روائع افتتان المتنبي بالطبيعة ودقة تصويرها، وصفه لشعب بوان في قصيدته الشهيرة:
ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسان
وقوله
ملاعب جنة لو سار فيها * سليمان لسار بترجمان
وقوله
وامواه يصل بها حصاها * صليل الحلي في أيدي الغواني
حتى يصل إلى
يقول بشعب بوان حصاني * أعن هذا يسار إلى الطِعان
أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان
وكنا نتوقف مبهورين عند البيت
لها ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ * بأشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلا أوَانِ.
ومن قصائده القصيرة التي يجيد طلاب الثانويات حفظها ذات زمان قصيدة “أرقٌ على أرقٍ”.
ومن القصائد التي تجري بعض أبياتها مجرى الحكمة والمثل قوله:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ
ما دامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ
وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ
هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا
حتى يقول
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ
تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ.
ومن روائعه في مقامات المواساة والتيقن وتجاوز مرارة الهزيمة والتطلع لمستقبلٍ واعد وأكثر إشراقاً، إنشاده لسيف الدولة:
لِهَذا اليَومِ بَعدَ غَدٍ أَريجٍ
وَنارٌ في العَدوِّ لَها أَجيجُ
تَبيتُ بِها الحَواصِرُ آمِناتٍ
وَتَسلَمُ في مَسالِكِها الحَجيجُ
فَلا زالَت عِداتُكَ حَيثُ كانَت
فَرائِسَ أَيُّها الأَسَدُ المَهيجُ
عَرَفتُكَ وَالصُّفوفُ مُعَبَّآتٍ
وَأَنتَ بِغَيرِ سَيفِكَ لا تَعيجُ
وَوَجهُ البَحرِ يُعرَفُ مِن بَعيدٍ
إِذا يَسجو فَكَيفَ إِذا يَموجُ
ومن القصائد التي تكاد تنصرف كلياً إلى ميادين الصبابة والغزل تلك التي تأخذ العنوان (اليوم عهدكم)
اليَومَ عَهدُكُمُ فَأَينَ المَوعِدُ
هَيهاتَ لَيسَ لِيَومِ عَهدِكُمُ غَدُ
المَوتُ أَقرَبُ مِخلَباً مِن بَينِكُم
وَالعَيشُ أَبعَدُ مِنكُمُ لا تَبعِدوا
إِنَّ الَّتي سَفَكَت دَمي بِجُفونِها
لَم تَدرِ أَنَّ دَمي الَّذي تَتَقَلَّدُ
قالَت وَقَد رَأَتِ اِصفِرارِيَ مَا بِهِ
وَتَنَهَّدَت فَأَجَبتُها المُتَنَهِّدُ
فَمَضَت وَقَد صَبَغَ الحَياءُ بَياضَها
لَونٌ كَما صَبَغَ اللُجَينَ العَسجَدُ
فَرَأَيتُ قَرنَ الشَمسِ في قَمَرِ الدُجى
مُتَأَوِّداً غُصنٌ بِهِ يَتَأَوَّدُ
عَدَوِيَّةٌ بَدَوِيَّةٌ مِن دونِها
سَلبُ النُفوسِ وَنارُ حَربٍ توقَدُ
وَهَواجِلٌ وَصَواهِلٌ وَمَناصِلٌ
وَذَوابِلٌ وَتَوَعُّدٌ وَتَهَدُّدُ
أَبلَت مَوَدَّتَها اللَيالي بَعدَنا
وَمَشى عَلَيها الدَهرُ وَهوَ مُقَيَّدُ
بَرَّحتَ يا مَرِضَ الجُفونِ بِمُمرَضٍ
مَرِضَ الطَبيبُ لَهُ وَعيدَ العُوَّدُ.
ورحم الله من قال:
إذا الشعر لم يُشجيك عند سماعه
فليس خليقاً أنْ يُقال له شعرٌ…
وكل عام وأنتم بخير،،، ودمتم في حفظ الله ورعايته