8 مايو 2022م
استمعت وكثيرون غيري بالصدفة إلى الحديث الذي أدلى به الأخ العميد صلاح كرار في رد على حديث القائد الفريق محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة في تعليق عفوي أطلقه في وصف حالة السيولة التي تعيشها البلاد عندما أشاد بالرئيس نميري ووصفه بأنه كان كارباً لقاشه (وهذا تعبير يستخدمه الإخوة العسكريون لأخذ الامور بالشدة أو الجدية المطلوبة).
العميد صلاح كرار اطلق ذخيرته الحية في وجه رجل نذر حياته وماله وأهله من اجل بناء الوطن، وقدم نفسه رخيصة في قتال شرس مع ما كان يتهدّد البلاد من حروب ضد من كانوا يسمون وقتها بقوات التمرد (والتي سميت لاحقاً بقوات الكفاح المسلح) وهي قوات كانت تساندها اغلب دول الجوار واغلب الدول الأوروبية، ليس حبا لها ولكن كيداً للسوان هذا البلد العظيم، الذي قال عنه وزير خارجية اسرائيل قبل اكثر من خمسة وعشرين عاما في محاضرة في فيينا عاصمة النمسا (السودان دولة عظمى لن نسمح بقيامها).
أخي العميد صلاح اذا كانت الجندية في رأيك والجيش المقاتل لا يمكن ان ينال شرفه إلا الذين درسوا في الكليات الحربية أو الأكاديميات العسكرية العليا ، ما كان للمسلمين الأوائل ليقهروا دولتي الفرس والروم وهما كانتا أقوى وأمتن امبراطوريات ذلك الزمان، ولكن الذين هزموا القوتين العظيمتين وأضاءا فجراً للإسلام لتحرير الناس من عبادة الناس الى عبادة رب الناس، ومن جور السلطان الى عدالة الإسلام، لم يتخرجوا في كلية سانتهرس البريطانية او الكلية الحربية السودانية، بل تخرجوا من بين يدي رسالة الإسلام العظيمة التي فرضت على المسلمين الجهاد في سبيل الله جماعة كافة وليس جيشا محترفا محدد القوى، والإسلام لم يعرف في تاريخه الطويل احتكار الجندية والقتال لفئة معينة تسمى بالجيش الفلاني، بل كان القتال فريضة على كل من يستطيع حمل السلاح وكان بذلك كل المجتمع المسلم جنوداً في سبيل الله.
بل إنّ كل قادة السودان الذين دحروا القوى الاستعمارية وكسروا شوكتها حتى معركة تحرير الخرطوم لم يتخرج اي منهم في اي كلية عسكرية أو مدرسة حربية،
فالإمام المهدي عليه السلام لم ينتصر على قوى البطش والعدوان وهزم جيوشها من معركة أبا الى معركة تحرير الخرطوم بشجاعة وبسالة وهبها له الله ولم يدرسها في الأكاديميات العسكرية لأنها لا تدرس، بل هي نعمة من نعم الله يختص بها من يشاء من عباده. الأمير القائد الفذ عثمان دقنة والذي لم يكن يحمل في صدره النياشين والإشارات التي تحلو بها صدوركم اليوم، بل كان يجاهد عاري الصدر والأمن الإيمان بربه وحبه للجهاد والقتال في سبيل عقيدته ووطنه وما كان يلبس إلا ما يستر العورة، هزم جيوش بريطانيا العظمى وكسر المربع الإنجليزي كأول قائد في التاريخ يقوم بمثل هذا العمل، حتى غنى له شاعر الإنجليز كيبلنج بقصيدته المشهورة هذي وذي فأثبت بقدراته القتالية ودهائه الحربي. هذه الصفات لا تأتى من المعاهد العسكرية التي تتفاخرون بها اليوم. وكل أمراء المهدية وقادتها العسكريون ود النجومي أمير الأمراء وحمدان أبو عنجة والزاكي طمل والنور عنقرة لم يتخرجوا في أي كلية سودانية أو أجنبية، إنما هي صفات القتال والرجولة وحب الوطن وفداء الدين والعقيدة بالأرواح والمُهج وحبهم للموت والشهادة في سبيل الله فتحقق لهم الانتصار تلو الانتصار.
تكفي شهادة عدوهم شرشل رئيس وزراء بريطانيا ايام الحرب العالمية الثانية والذي اشترك من معركة كرري كمراسل حربي وألّف كتابه حرب النهر، الذي وصف فيه جيوش المهدية بأنهم أشجع من مشى على وجه الأرض، قال دمرناهم بقوة الآلة ولم نهزمهم.
وقال عنهم مراسل الصحف الأمريكية حاربنا رجالاً يسعون الى الموت في شجاعة لم نشهدها أو نقرأ عنها، دمرناهم بقوة الآلة ودمروا معنوياتنا بثباتهم أمام الموت، بل إصرارهم على الموت حباً في دخول الجنة، فأين كانت الكليات الحربية والعسكرية التي تتفاخرون بأنكم تخرجتم فيها الآن، فهي قد تُعلمكم بعض التكنيكات الحربية وبعض فنون القتال ولكن الآلة الحربية لا تقاتل وحدها، بل الجندي الذي يقف خلفها ويمسك بها هو الذي يقاتل بالصفات التي ذكرتها آنفاً وهي كما ذكرت صفات موهبة من الله عز وجل خص بها رجالاً اختصهم لقضاء حوائج الناس.
ويبلغنا التاريخ ان سيف الله المسلول سيدنا خالد بن الوليد الذي قاد جيوش المشركين (قبل أن يمن الله عليه بالإسلام) بما حباه الله من صفات الإقدام والشجاعة والمروءة وهي قدرات لا تمنحها المعاهد العسكرية، بل هي منة من الله يمنحها لمن يشاء من عبادة فهي خصائص وصفات لا تدرس في المعاهد والكليات العسكرية حتى سماه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بسيف الله.
هذه الأمثلة ذكرتها لك لأنها تدحض حديثك عن أن الجندية والترقي في الرتب العسكرية التي تنتمون اليها لا يتأتى إلا لخريجي معاهدكم العسكرية كما علمكم الاستعماريون، انها الرجولة والفروسية وحب الموت في سبيل العقيدة والوطن.
عندما ادلهمت الخطوب بالسودان وحاصره أعداؤه من دول الجوار ودول الاستكبار، كان جيش السودان في أسوأ حالته واضعف قدراته من الإهمال الذي وجده من الحكومات الحزبية المتلاحقة، وأحداث جوبا في ظل حكومة المرحوم السيد الصادق المهدي خير دليل على ما وصلت اليه حالة القوات المسلحة حينها، ولولا قيام ثورة الإنقاذ في ذلك الزمان الأغبر ونادى منادي الجهاد أن هبوا يا أهل السودان للدفاع عن وطنكم وعقيدتكم، فتدافع الشباب والشيوخ والأطباء والمهندسون وكل فئات المجتمع المدني وأسّسوا الدفاع الشعبي وفي اقل من شهر ثم تدريبهم على حمل السلاح ولم يحتاجوا لدخول الكليات الحربية او المعاهد العسكرية حتى ينالوا شرف الانتماء لها ليذودوا عن حياض الوطن.
وقدموا أرتالاً من الشهداء وبذلوا ارواحهم الغالية فداء للوطن ولم يكن أي منهم تخرج في الكليات الحربية أو كلية القادة والأركان.
ورغم تقديري الكبير لقواتنا المسلحة وجيشنا الباسل، إلاّ أنّ القائد حميدتي لبّى نداء الوطن هو ومن اختارهم من رجال أوفياء أقوياء من أهله وبطانته وقبيلته ومن قبله الشيخ موسى هلال عندما استنجد بهم الرئيس المشير عمر البشير فوجد الصلابة ورباطة الجأش وحب الموت والاستشهاد، فقاتلوا التمرد حتى هزموه في آخر المعارك في خور دنقو.
كان من الممكن ان ينال القائد حميدتي طلقة في رأسه او جسده فيلقى الله شهيداً من أجل هذا الوطن الذي تستكثرون عليه اليوم ألقابكم العسكرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع صداً لهجمات الصهيونية العالمية التي كانت ومازالت تتربص بالسودان لتقسيمه الى دويلات خمس كما رسموا ذلك في خرائطهم قبل اكثر من ثلاثين عاماً، وجاءوا بفولكرهم المشئوم على يد بعض أبناء السودان الذين خانوا ديارهم ورموا وطنهم تحت أقدام الصهاينة ليعيثوا فساداً في أرض السودان الأبي. القائد حميدتي نموذجٌ حي للوطني الغيور على بلده ودينه وعرضه، فبذل من وقته وماله ودمه وإخوته وأهله وعشيرته ما لم يبذله قائد مثله، فهو كإطفائي الحريق يسير في حقل من الألغام ويطفئ نيران الفتنة في اي بقعة من بقاع السودان ويبذل ماله سخياً دون منٍّ أو أذى في سبيل وحدة صف البلاد، بل امتد جهده إلى إخوته في جنوب السودان والف ما بين القائد رياك مشار والرئيس سلفا كير لتنعيم دولة جنوب السودان بالاستقرار حتى ينعم الشمال به كذلك.
رجل تشهد له مواقفه القوية وعزيمته التي لا تكل ولا تمل من فعل الخير كرسول سلام دعى له أعداء الأمس ليكونوا اخوة اليوم عندما وضعت الحرب أوزارها ولم يحمل الحقد القديم عليهم، فليس زعيم القوم من يحمل الحقد ورجال اختصهم الله بكل الصفات العظمى من شجاعة وكرم ومروءة وحسن خطاب، بل وقبول عند كل الأطراف وقلب ابيض نظيف كبياض اللبن لا يعكر صفاءه أي إساءة أو تجريح أو إسفاف ممن هم دونه من هذه الصفات التي خصها الله بها.
أنت تستنكر عليه هذه الرتبة التي نالها بمستحقاتها كاملة، فقط لأنه لم يأت عن طريق التراتيبية العسكرية التي تتلمذتم انتم عليها في معاهدكم العسكرية، فالرجال لا تصنعهم المعاهد العسكرية فقط، بل إن الله هو الذي يدخرهم ويمنحهم من الصفات والخصائص ما يمكنهم من دفع ضريبة الوطن دون ضوضاء أو منٍّ.
لقد تحدث القائد حميدتي بعفوية ومصداقية مع نفسه أولاً ثم مع الآخرين، لأنه كما قال منذ اليوم الأول لظهوره على المسرح السياسي انتهى عهد الغتغيت،
فهذا رجل لا يحب النفاق أو يظهر بلسانه ما يخفيه في سريرته الناصعة وظاهره كباطنه.
ثم انك أخي الكريم كأنك تستنكر قول الله القوى الجبار والذي قال في محكم النزيل (قُلِ اللّهُمَّ مَاِلكَ المُلكَ تُؤتِي المُلكَ مَن تَشاءُ وتَنزِعُ المُلكَ ممّن تَشَاءُ …الآية) فهل تريد أن تشارك الله في إرادته والعياذ بالله.
وأخيراً أهمس في أذنك أخي الكريم، لو كان القائد حميدتي من أبناء قبيلتك وجلدتك وأهل النيل الشمالي هل كان سينال منكم مثل هذا الهجوم غير المبرر وهو هجوم ظل يواجهه كل من أتى من أهل غرب السودان حتي ترسخ في الأذهان منذ تاريخ المهدية حتى اليوم.
لا أريد ان أنكأ الجراح ولكن علينا كسودانيين ان نقبل بعضنا البعض ونحترم بعضنا البعض وننبذ الجهوية والقبلية ونرمي بها بعيداً عن مواقفنا تجاه الرجال، فلا عصبية للقبيلة العسكرية أو أي قبيلة او جهة أخرى، بل العصبية للسودان الواحد الموحد بإذن الله رغم أنف فولكر وعملائه. واختلاف الرأى لا يفسد للود قضية.