مولانا صباحي فقد كبير.. دُفن مع نعشه كم هائل من العلم والمعرفة والخصال الحميدة
رحم الله (الحاجة بتول بت صباحي) وجمع السيد مولانا محمد عبد الرحيم صباحي بعمته (حاجة بتول) في جنات الخلد فهي من أطلقت عليه هذا اللقب (سيد محمد) وهو في عنفوان شبابه، وظل جميع إخوانه وأهله الصباحاب يذكرون اسمه مسبوقا بلقب (السيد)، ويبدو أن (عمته) كانت ذات نظرة فاحصة تقرأ الشخوص والأحداث كما ينبغي فقد كان سيداً وكبيراً وأميراً وصدق حدسها في (سيد محمد).
يقولون (اذكروا محاسن موتاكم) ومحاسن مولانا (صباحي) عصية على الحصر لأن الكتمان والسرية في أعمال الخير كان ديدنه وأحياناً لا تعرف يساره ما أنفقت يمينه… ولو لا أنني ساكنتها في البيت وعايشت حياته اليومية لما وصلتني هذه المعلومات وأسأل الله أن أكون مصيباً فى نشرها من باب (اذكروا محاسن موتاكم).
(مولانا صباحي) رحمه الله كان قِيماً ومبادئ وأخلاقاً تمشي على قدمين وتتمثل كل تصرفاته في آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو أخلاق إنسانية عظيمة.
الأقربون أولى بالمعروف
يعتقد البعض أن هذا المبدأ أو القول آية أو حديث لكنه اقتباس للمعنى من الآية الكريمة (يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍۢ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
والله اعلم بما كان يفعله سيد محمد في هذا الجانب
الأقربون أولى بالمعروف من المبادئ السامية التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين لتعلو بسمو الأخلاق والقيم.. إذ أن من الواجب على كل فرد أن يبدأ أولاً وقبل كل شئ بأهل بيته وهذا كان ديدن (مولانا صباحي) وعمل بهذا المبدأ طوال حياته ومواقفه تجاه أسرته الكبيرة جدا ً يعلمها الله وأهلها…
حدثني من شهد غسل الجثمان من إخوانه أنه كان بذات الهيبة تعلو وجهة ابتسامة ونضار… واحسب أن وفاته في العشر الأواخر أيام العتق من النار وفي أيامها الفردية كلها دلالات تجعلنا نحسبه صاحب رصيد كبير في (العمل الصالح) يجعله ضمن من قال عنهم المولى عز وجل (من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً) وأحسبه منهم والله كفيل به وأعلم (بعمله الصالح).
كان رحمه الله يُمارس عادةً غريبةً ونادرةً لم أعرفها في غيره يشتري أحسن قماش في السوق ويخيط جلباباً راقياً وقبل أن يلبسه يختار أحد (الأقربون) قائلاً له (عاوز لي جلابية قديمة) خُذ هذه واعطني جلبابك القديم فيلبس الجلباب القديم ويسعد به وكأنه يشتم فيه رائحة (الأقربون) ويعزِّز الانتماء لهم.
حكى لي ذات مرة أنه كان قريباً من الالتحاق بمعهد المعلمين العالي لما يوفره في ذلك الوقت من مرتبات محترمة لطلابه كي يساعد أسرته ووالده القاضي الشرعي بالمحكمة العليا وهو على أعتاب المعاش.. وأحسب أن التعليم قد فقد معلماً فذاً بعدم دخوله المعهد وكانت ستفقده ساحات القضاء والقانون والعدالة وميادينها لولا ترجيحه كفة دخول كلية القانون (سيد محمد) يتقن ويجيد ويبدع أينما حل.
أما ما لا يعلمه الناس أن (سيد محمد) كان طوال حياته (خادماً لنفسه وبيته) لا يوجد في قاموسه (يا ولد تعال جيب موية) وينطبق عليه بدرجة كبيرة حديث السيدة عائشة عندما سئلت عن الرسول صلى الله عليه في بيته قالَتْ: كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ- تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ.
وهذا بالظبط ماكان عليه مولانا صباحي فقد كان في (مهنة أهل بيته) ولم أر مثله إطلاقاً في هذا الأمر… ربما يكون بعيداً عن مخيلة من يعرفون القاضي الصارم الحازم مولانا صباحي ذو الهيبة الكبيرة أنه يمكن أن يحمل مكنسة وينظف مكانه أو يغسل الأواني التي استخدمها أو يخيط الملابس أو يغسلها ويضعها على حبل الغسيل أو يراجع دروس أبنائه بمحبة… لكنه كان يفعل كل ذلك وأكثر في خدمة أهل بيته بكل رضاء ومتعة وقبول…. ويؤمن إيماناً تاماً أن ذلك من ضمن واجباته نحو أسرته ولا يفقده ذلك ذرة من هيبته وامتلاكه زمام الأمر في بيته.
كان رحمه الله ينظم وقته بصورة عجيبة فتحسب أن اليوم عنده (تلاتين ساعة) أو يزيد كان يقول إن الساعات في الغربة تمر ببطء شديد… كان يستيقظ باكراً لا يزعج أحداً إطلاقاً يرتب كل أمور الصباح في البيت… سكنت معهم بمنزله في أبو ظبي لمدة تقل عن الشهر حتى أتمكن من ترتيب أحوالي عندما تم نقلي من دبي إلى العاصمة أبو ظبي، كان رحمه الله هو من يوقظني من النوم ثم تحضر لي زوجه السيدة (عواطف) شاي الصباح ولوازمه قضيت معهم أيام خدموني فيها مثل ابنهم تماماً.
كان مولانا صباحي يمتع نفسه بما يقوم به داخل بيته… على عكس ما كان عليه المغتربون الآخرون، (سيد محمد) لم يستعن إطلاقاً بخادمة في شقته الضخمة في أبو ظبي ذات الخمس غرف والصالون الكبير وهو المقتدر على جلب أكثر من خادمة لكن إيمانه القاطع بأن البيت يخدمه أهله حال دون ذلك…
يهتم بأمر النظافة بشكل ملحوظ ويساعد في ذلك بشكل كبير ويهتم بأمرها غاية الاهتمام… كذلك يهتم بمدارس الأبناء ودروسهم، شاهدت ذلك مع أصغر بناته هبة، كنت أجده يراجع معها دروسها في الأمسيات ويهتم بأمر خروجها للمدرسة في الصباح الباكر…
مولانا صباحي رحمه الله كان ذكياً ولماحاً فقد قرأ بحصافة ما يدور بذهني أثناء وجودي معهم داخل بيتهم، وفي ذات أمسية وبذكاء تبرع بإزالة تلك الدهشة التي اعترتني لما يقوم به هذا الرجل من عمل يصعب على مجموعة عمل كاملة من الرجال والنساء إنجازه، فحكي لي عن تاريخه وأنه اعتمد على نفسه في وقت مبكر منذ أن كان طفلاً وأحياناً كثيرة بعيداً عن أسرته بسبب تنقلاتهم الكثيرة، وأنه درس بالمدارس الداخلية من المرحلة الابتدائية حتى تخرجه من الجامعة مما جعله مؤهلاً للقيام بكل شئ والاهتمام بأدق تفاصيل الحياة اليومية، ثم أردف ساخراً من الحكومات الحالية التي ساهمت في (تعطيل) الأجيال الحالية وإهدار قدراتها الكامنة وجعلت من داخليات المدارس الكبيرة كليات جامعية لا تؤتي أُكلها.
(سيد محمد) تزوج من بنت عمه (سلوى الأمين صباحي) رحمها الله وعاشا فترة اغتراب بالسعودية وانجب منها هدى (زوجتي) وشقيقتها منال ثم تزوج بالسيدة عواطف بابكر وأنجب منها م. بابكر بأمريكا ود. غسان الذي كان ملازماً له طوال فترة مرضه وأخيرا طالبة الجامعة هبة آخر العنقود هبوية كما يحلو لنا…
وكان رحمه الله حريصاً جدأً على علاقة أبنائه ببعضهم البعض ويوصيهم دائماً بذلك..
وأخيراً لعل أمر اهتمامه بالكتاب والإطلاع وتنمية الذات وتثقيفها والاستزادة بالمعرفة في كل المجالات ومكتبته الضخمة أمر يحتاج لمقال منفصل.
نواصل…